هل أرسل اللـه إلى الجن رسلاً منهم أم لا ؟ , اسئلة مفيدة عن عالم الجن
ولا يَرِد على ما سبق الاحتجاجُ بمعنى قوله تعالى: [الأنعَام: 130] {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} . فإن ظاهر معنى الآية أفاد أن لهم رسلاً من جنسهم، كما أن للإنس رسلاً من جنسهم. لكن الراجح في ذلك عند أهل العلم أنه لم ينبأ منهم أحد ولم يكن منهم رسول، وقد استدلوا على ذلك بأدلة عديدة، منها:
قول الله تعالى: [يُوسُف: 109] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... } .
وقوله تعالى: [الفُرقان: 20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} ، وقوله عزّ وجلّ: [العَنكبوت: 27] {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . وفيه تصريح بأن كل نبي بعثه الله بعد إبراهيم عليه السلام فهو من ذريته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ (2) .
_________
(1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني (5/26) .
(2) محل استدلالٍ من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الجهاد والسِّيَر، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم - بلفظه -؛ في استهلال كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523) ، عنه أيضًا.
(1/14)
ومعلوم - ولا ريب - أن الجن هم من بعض الخَلْق المكلّفين، فيدخلون في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أفاد الحديث أيضًا أنه ليس لأحد من إنس أو جن أو غيرهم ادعاء نبوة - أو رسالة من باب أولى - بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهاك ثلاثة وجوه يرجح بها قول القائلين باختصاص الرسالة ببني آدم دون الجن:
الأول: ... كثرة الأدلة - وقد أوردت بعضها - ومن صريح ما استدلوا به قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... } [يُوسُف: 109] ، قال القرطبي رحمه الله: أي أرسلنا رجالاً ليس فيهم امرأة ولا جني ولا مَلَك (1) . اهـ.
الثاني: ... أن المراد بقوله تعالى -، أي: من أحدكم (2) وقد بينه الإمام الشوكاني رحمه الله بقوله: هو من مجموع الجنسين، وصَدَقَ على أحدهما، وهم الإنس، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} [الرحمن: 22] ، والمراد: من أحدهما. اهـ (3) .
الثالث: ... تضمُّن القرآن الكريم خطاباً للجن وتحدياً لهم وإعلاماً بمآلهم في الآخرة، وتوعُّداً لهم، فأما إفرادهم بالخطاب ففي قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ} [الأنعام: 128] ، وأما اقتران الخطاب بالإنس ففي قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
_________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/272) .
(2) المرجع السابق (7/87) .
(3) انظر: فتح القدير للإمام الشوكاني (5/26) .
(1/15)
تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33] ، وهو من التحدي لهم، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء: 88] . ومن الإعلام بمصيرهم في الآخرة قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ *وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأحقاف: 18-19] ، ومن توعّده لهم قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ *} [الرحمن: 31] . وقوله: {وَمِنَ ... } [سبأ: 12] .
وخلاصة ما ذُكر آنفًا - في تقرير أن الجن مخاطبون بالتكليف من قِبَل رسل الإنس - هو ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله بقوله: (إن سورة الرحمن والأحقاف وقل أوحي - أي سورة الجن -، دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون، معاقبون كالإنس سواء بسواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك)) . اهـ (1) .
ووجه الاستدلال في ذلك: أن خطاب القرآن المتوجه إلى الجن دال على أن من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم هو مرسل إلى الجن كما إلى الإنس، وإلا فكيف يفردون بالخطاب ثم يتوعدون بالعذاب، ويتم تحديهم بكتابٍ، هو في الأصل منزل على رسول خاص بالإنس، فلو حصل ذلك لكان لهم عندها أن يحتجوا بقولهم: لا شأن لنا بذلك كله،
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي: (17/170) .
فالقرآن إنما أنزل على رسول خاص بالإنس، ولمّا لم يفعلوا، دل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل لعموم الإنس والجن، والله أعلم.