التصور العام عن الاختصاص القضائي في الأنظمة ( المبحث الرابع )
المبحث الرابع
نشأة الاختصاص القضائي وتطوره
الأصل في القضاء العموم ؛ حيث يتولى الخليفة أو من ينوب عنه الحكم في كل ما يعرض عليه من القضايا والمنازعات بلا استثناء. ومن الأدلة على ذلك: ((أن النبي e أُتي له برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ، فأمر به عمر )).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي e ضَرب وغَرّب، وأن أبا بكر ضَرب وغَرّب، وأن عمر ضَرب وغرَّب)) .
والأدلة في ذلك كثيرة، وإنما المقصود الإشارة إلى شيء منها.
قال أبو الوليد ابن رشد رحمه الله: "اتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق؛ كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى، وأنه يعقد الأنكحة، ويقدم الأوصياء".
لكن لما أخذت الدولة الإسلامية في التوسع والازدياد، فمن طبيعة الحال أن تزداد المشكلات، وتتعقد أمور الحياة، وتكثر أعباء ولي الأمر؛ مما يجعله في حاجة إلى من يعينه ويكفيه النظر في بعض الأمور.
فمن الأمثلة على ذلك: ما جاء عن النبي e أنه أرسل عليا t إلى اليمن، فقال: ((علمهم الشرائع، واقض بينهم، فقال: لا عِلْمَ لي بالقضاء! فدفع في صدره، فقال: اللهم اهده للقضاء)).
كما بعث أيضاً e أبا عبيدة عامر بن الجراح t إلى أهل نجران.
ومن الأمثلة على ذلك أيضا: أنه ((لما استُخلف أبو بكر t قال لعمر وأبي عبيدة: إنه لا بد لي من أعوان: فقال عمر: أنا أكفيك القضاء، وقال أبو عبيدة: وأنا أكفيك بيت المال، قال: فمكث عمر t لا يأتيه رجلان)).
وفي هذا دليل على فصل أبي بكر الصديق t القضاء عن الولاية العامة ، مع أنه كان يباشره في بعض الأحايين.
ومن الأمثلة أيضاً على تخصيص القضاء ما تقدم عن عمر بن الخطاب أنه أمر يزيداً أن يكفيه في صغار الأمور.
قال الماوردي - وهو من علماء القرن الخامس الهجري - رحمه الله: "ولا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته عامة مطلقة التصرف في جميع ما تضمنته فنظره مشتمل على عشرة أحكام..." ثم عددها، إلى أن قال: "ويجوز أن يكون القاضي عام النظر خاص العمل ، فيقلد النظر في جميع الأحكام في أحد جانبي البلد أو في محله منه ، فينفذ جميع أحكامه في الجانب الذي قلده والمحلة التي عينت له..." .
وتتحدد صلاحيات القاضي بقول الوالي له، أو حسب ما جرى به العرف والعادة في التولية لمثل ذلك المهام.
أما التطورات التي جرت على هذا الفرع من فروع القضاء - أعني الاختصاص القضائي – عبر التاريخ ، فإنها تتلخص في الآتي:
ـ فقد وجد في عهده e تخصيص أشخاص بالقضاء في ناحية من النواحي، كما رأينا إرساله لعلي بن أبي طالب t إلى اليمن، وقد ورد أيضا بعثه e لمعاذ بن جبل t([43])، وأبي موسى الأشعري t كُلٌّ على نصف من اليمن. فهذا اختصاص بالمكان.
ـ تطورت الفكرة في عهد الخلفاء، فكان هناك الاختصاص القيمي والنوعي؛ كما قال عمر: "اكفني في صغار الأمور". وكما "نهى أن يقضى في الدماء دون إذنه".
ـ ووجد أيضا قاضي الأحداث، وهو غير الأحداث المعروف في المصطلح المعاصر، وإنما تعني الجرائم الكبرى التي تشمل الجنايات على الأنفس والاعتداء عليها، فقد ولَّى عمر t عمارَ بن ياسر t على الكوفة وأسند إليه القضاء في الأحداث.
ـ ثم وجد هناك قاضي الجيش أو قاضي العسكر؛ ومهمتهم أن يرافقوا الجيش في غزواتهم ويقوموا بفصل المنازعات والخصومات التي تحدث بين الجيش حتى يتفرغوا لمهمتهم بعيدين من الشحناء والبغضاء .
ـ ومن الاختصاصات التي وجدت ما يعرف بقاضي البَر ّ؛ وهو كل ما عدا المُدُن، و قاضي المياه . فسعيا إلى التخفيف على الناس نتيجة صعوبة المواصلات ، حيث كان القاضي يتنقل فيما بينهم ويقضي بكل ما يحدث من النزاعات والخصومات بسبب ذلك، وحتى لا يضطروا إلى ترك مصالحهم من أجل التحاكم إلى القاضي في المُدُن.
ـ ووجد أيضا ما يعرف بقاضي الركب، وهو قاضي موسمي، خاص بركب الحج، ومهمته في هذا الركب أن يفتي الناس في مسائل الحج ، ويحكم بينهم فيما شجر بينهم من الخلاف.
ـ وفي عهد الدولة الأموية وجد اختصاص آخر أبرز من ذي قبل، وهو ما يعرف بديوان المظالم، أو قاضي المظالم.
كما وجد أيضاً ما يعرف بقاضي الجِرَاح؛ وهو قريب من قاضي الأحداث غير أنه في الجراح.
ـ وفي العهد العباسي وجد منصب قاضي القضاة. .
فهذه باختصار هي التطورات التي جرت على الاختصاص القضائي عبر التاريخ ، وفيما يلي نعرج على الاختصاص القضائي في المملكة العربية السعودية، فنقول :-