بخارى في العصر الساماني
بقيت بخارى تابعة إدارياً للطاهريين ولاة خراسان، حتى سنة 259هـ/873م. ثم ولّى نصر بن أحمد الساماني أميرسمرقند أخاه إسماعيل بخارى بناء على طلب أهلها وعلمائها، ولما تُوفي نصر سنة 279هـ/892م صار إسماعيل حاكماً لما وراء النهر، واعترف به الخليفة أميراً على خراسان وما وراء النهر. صارت بخارى عاصمةللدولة السامانية ومركز إشعاع للعلوم والصناعة إلا أنها لم تبلغ في العظمة والثروة شأو سمرقند
وقد مدحها الثعالبي في يتيمة الدهر، فقال عن بخارى:"كانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.."
بخارى في العهد المغولي
فقدت بخارى كثيراً من أهميتها السياسية بعد سقوط الدولة السامانية سنة 389هـ/999م، غير أنها ظلَّت معقلاً للإسلام ومركزاً للعلوم الدينية في عهد انحطاطها السياسي عبر العصور، وفي سنة 604هـ/1207م انتقل حكم بخارى إلى علاء الدين محمد بن تكَش خوارزم شاه الذي جدَّد بناء قلعتها، وقد تعرضت بخارى لمحن عديدة، كان أعظمها محنة المغول -التتار.
ففي الرابع من ذي الحجة سنة 616هـ استسلمت بخارى لجيش جنكيز خان، ونُهِبَت المدينة وأُحرقت إلا المسجد الجامع وبعض القصور، ولكنها لم تلبث أن استعادت عافيتها بعد ذلك، حيث أعيد بناؤها في عهد أوقطاي خان خليفة جنكيز خان.
وقد ثار أهالى بخارى عام 636 هـ ضد المغول، ولكن هذه الثورة أخمدت. وفي سنة 671هـ/1273م استولى جيش أباقا حاكم فارس المغولي على بخارى وهدَّمها وشرَّد سكانها، ثم أُعيد بناؤها، ولكنها خُرِّبت ثانية سنة 761هـ/1359م من قبل مغول فارس، ويبدو أنه لم يكن لبخارى أهمية في الحياة السياسية لبلاد ما وراء النهر في عهد التيموريين.
ولا تتوافر معلومات واضحة عن طريقة حكم هذه المدينة في السنوات الأولى من حكم المغول، وكل ما يعرف هو أن "المُلاَّ" والأشراف كانوا معفيين من الضرائب أسوة بكهنة الأديان الأخرى، وأن أميرة مغولية مسيحية بَنَت المدرسة الخانية في بخارى على نفقتها الخاصة، وأن العلامة المشهور سيف الدين باخرزي (ت 659هـ/1261م) عُين مدرساً لهذه المدرسة ومتولياً لها، وأنشأ أحد أشرافها المعروف باسم مسعود بك مدرسة أخرى، سميت المسعودية نسبة إليه، في ميدان بخارى، وكان يتعلَّم في كل من هاتين المدرستين نحو ألف طالب.
بخارى في عهد الأوزبك
وفي عام 905 هـ فتح بخارى الأزابكة، وقد اتخذ أميران من آل شيبان الأوزبك وهما عبيد الله بن محمود (918-946هـ/1512-1539م) وعبد الله بن اسكندر (964-1006هـ/1557-1598) بخارى عاصمة لهما، وفي عهديهما استعادت بخارى مكانتها مركزاً لحياة سياسية وثقافية، وظلت كذلك في عهد الأسرتين التاليتين الجانية والأستراخانية، وسرقت الأضواء من سمرقند حاضرة الأوزبك.
ومنذ القرن العاشر الهجري / السابع عشر والثامن عشر الميلاديين توثقت الصلات بين أمراء الأوزبك والقياصرة الروس، وقد كان الروس يطلقون اسم بخاري على كل تاجر ومهاجر من آسيا الوسطى أو تركستان الشرقية، والتي كانت تعرف ببخارى الصغرى. وقد كان عهد الخان عبد العزيز (1055-1091هـ/1645-1680م) آخر عهود بخارى السعيدة؛ لعجز الأمراء اللاحقين عن الحفاظ على الوحدة فأصبح أمير بخارى لا يحكم إلا حيزاً صغيراً.
بخارى والاحتلال الروسي
في سنة 1153 هـ / 1740م استولى نادر شاه الصفوي على بخارى، ولكنها استعادت استقلالها بعد وفاته، حيث ظهرت الأسرة المانگيتية، حيث نادى محمد رحيم خان بنفسه خاناً سنة 1170هـ فاستردت بخارى بذلك بعضاً من مجدها وتاريخها كمدينة للإسلام والشريعة
وفي عهد الأمير مظفر الدين شاه (1277- 1302هـ /1860-1885م) ازداد نفوذ الروس وتغلغلهم في بلاد ما وراء النهر، واضطر الأمير مُظفَّر إلى التخلي عن أجزاء واسعة من أراضيه لهم، ولم يتعرض الروس للعاصمة بخارى التي اتسع نفوذها غرباً سنة 1873م على حساب خانات خيوة (خوارزم سابقاً). وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أقام الروس بعض المنشآت الحديثة على مقربة من بخارى القديمة وأطلقوا عليها اسم بخارى الحديثة، وأصبحت مقر المبعوث الروسي، وربطت ببخارى القديمة بسكة حديد أقيمت على نفقة أمير بخارى.
تولى الأمير عبد الأحد خان إمارة بخارى (1302هـ - 1885م / 1328هـ- 1910م)، وشهد وقته نشاطا اقتصاديا في بدأ الإنتاج التجاري بإمارة بخارى للمعادن: النحاس والحديد والذهب، وجذب رؤوس الأموال والعمال الأجانب. بالإضافة لرواج بخارى في إنتاج الفراء الثمين والصوف. وكان له مكانة خاصة في رعاية شؤون الإسلام.ومن ذلك أنه أرسل وقف لصالح المقدسات في مكة المكرمة والمدينة المنورة وقد تبرع أمير عبد الأحد بعدة آلاف من روبل الذهب لبناء خط سكة حديد الحجاز.
وفي عهد الأمير عبد الأحد خان أُعلن قيام إمارة بخارى عام 1887م، والتي استمرت حتى سنة 1920م حين سيطر الروس سيطرة نهائية عليها، وقد اتفقت كل من روسيا وإنجلترا، التي كانت صاحبة النفوذ في أفغانستان، على رسم الحدود السياسية بين بخارى وأفغانستان، على أن يكون نهر بانج Pandj هو الحد الفاصل بينهما، ونُظمت العلاقات بين بخارى وروسيا.
ثم تولى الأمير عالم خان بن الأمير عبد الأحد خان إمارة بخارى سنة (1328هـ / 1910م)، وقد تلقى تعليمه بمدرسة سانت بطرسبورگ الحربية، وظل أميراً لبخارى حتى عام 1340هـ / 1922م، ثم استولى الروس على بخارى بصفة نهائية وأعلنت جمهورية بخارى، والتي قسمت عام 1343هـ / 1924م بين جمهوريات طاجكستان وأوزبكستان وتركمنستان، وصارت بخارى إحدى المدن المهمة في جمهورية أوزبكستان
shapereg.jpg
آثار بخارى ومعالمها
يوجد في "بخارى" إلى الآن أكثر من 140أثرًا معماريًا من أشهرها:
- قبة السامانيين، التى شيدها "إسماعيل الساماني" سنة (892م)، والمبنى عبارة عن مربع تعلوه قبة ترتكز على رقبة تبدأ بثمانية أضلاع وتنتهي بستة عشر ضلعًا في أركانها أربع قباب صغيرة.
- البوابة الجنوبية لأحد مساجد بخارى، التي شيدها "القراخانيون" في القرن (6هـ)، وقد جمعت هذه البوابة كافة الفنون الزخرفية في بخارى.
- مسجد "نمازكاه" الذي شُيِّد في القرن (6هـ).
- مئذنة "كاليان"، أقامها "أرسلان خان" سنة (1127م)، وزُينت هذه المئذنة من أسفلها إلى أعلاها بالطوب المزخرف بمهارة عالية.
- مسجد "بلند"، وهو من منشآت القرن (16م)، ويمتاز برواق خارجي به أعمدة خشبية تحمل سقفًا خشبيًا.
- حوض "ماء لب": الذي شُيِّد بأمر أحد مسئولي بخارى، والحوض يكسوه الحجر الجيري، وحوله حدائق غنَّاء.
أعلام بخارى
ومن أهم أعلام بخارى، الإمام "إسحاق بن راهويه"، والإمام "البخاري" العالم البارز الذي تعرف به مدينة "بخارى" عندما تُذْكر، وهو صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل.
ومن شخصيات بخارى كذلك الفيلسوف الطبيب أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، والمعروف بابن سينا، وتوفي عام 428هـ / 1036م، ومن مؤلفاته الإشارات والتنبيهات في الفلسفة، والقانون في الطب
قالوا عن بخارى
قال ياقوت الحموي: "وليس بما وراء النهر وخراسان بلدة أهلها أحسن قياما بالعمارة على ضياعهم من أهل بخارى ولا أكثر عددا على قدرها في المساحة، وذلك مخصوص بهذه البلدة لأن متنزهات الدنيا صغد سمرقند ونهر الأبلّة ..، وليس بخراسان وما وراء النهر مدينة أشد اشتباكا من بخارى ولا أكثر أهلا على قدرها".
ونقل ياقوت عن صاحب كتاب الصور: " وأما نزهة بلاد ما وراء النهر فإني لم أر ولا بلغني في الإسلام بلدا أحسن خارجا من بخارى؛ لأنك إذا علوت قهندزها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلّا على خضرة متصلة خضرتها بخضرة السماء، فكأنّ السماء بها مكبّة خضراء مكبوبة على بساط أخضر تلوح القصور فيما بينها كالنّواوير فيها، وأراضي ضياعهم منعوتة بالاستواء كالمرآة"