تطور مفهوم ودراسة علم المناخ
2- التطور التاريخي لدراسة علم الطقس والمناخ :
نظراً لان جميع الظواهر الطبيعية والبشرية التي وجدت على سطح الارض تتاثر بما يحدث من تغيرات في الغلاف الجوي والتي هي أساسا تمثل عناصر الطقس والمناخ ، فقد دفع ذلك بالإنسان الذي هو احد واهم مفردات عناصر البيئة الى الاهتمام بتلك التغيرات لما تعكسه من تاثيرات على حياته وأنشطته المختلفة ، حيث لا يوجد أيّ مفصل من مفاصل حياته لا يتاثر بتلك التغيرات سواء بشكل مباشر او غير مباشر .
ويرجع اهتمام الإنسان بالظواهر الجوية منذ ان وجد على سطح الأرض، اذ كان الانسان في بداية مراحل حياته الاولى اكثر احساساً بالتاثير المباشر لظواهر الطقس اليومية لانه كان بدائياً يخضع خضوعاً مباشراً في جوانب حياته ( المأكل ، الملبس والمأوى )، مما دفعه ذلك الى التفكير فيما يحيط به من تلك المؤثرات ويعطيها تفسيراً يتناسب وعقليته البدائية البسيطة وبالشكل الذي ارجعها الى قوى طبيعية والى ارادة الالهة لانها تقع خارج إرادته ، مما دفعه ذلك إلى عبادتها ، فأقام لها الطقوس والقرابين وأعطى لعدد من الظاهرات تسميات منها ( آله الشمس رع Ra ) و (آله قرص الشمس آتون)، وهو المسؤول في نظره عن سقوط أشعة الشمس على سطح الارض وبعث الحياة في كل الكائنات الحية .
وأعتقد السكان القدامى من الفراعنة ايضاً بان الاله ( بورياس آله الرياح) هو المسؤول عن هبوب الرياح ، وان الاله (بلوفيوس) هو آله المطر عند الرومان ، والإله ( ثور ) هو آله الرعد عند القبائل في شمال أوربا من الاسكندنافيين . كما ذكرت تسميات للآلهة ارتبطت بتاثير الظواهر التي تحدث في الغلاف الجوي منها ماورد عند سكان العراق مثل (آنليل ) والذي يمثل لديهم الهواء والجو والظواهر المتعلقة بهما حتى انهم اطلقوا عليه ( سيد الهواء ) او ( الرب الهواء ) ، والآله (آنور) للسماء ، والآله ( سين ) للقمر والآله ( شمس ) الذي اطلق على الشمس .
وأستمر اهتمام السكان بالظواهر الجوية التي تحدث في الغلاف الجوي والتي هي اساساً انعكاساً لما تتعرض له عناصر الطقس والمناخ من تغيرات خاصة بعد ان استقروا وازداد عددهم وبشكل اسهم في بروز الملامح الحضارية ، حيث بدأ النتاج الفكري الجغرافي في هذا الجانب يتبلور من خلال الربط بين هذه الظواهر تحليلاً وتفسيراً وحتى توقعاً ، وكان للصينيون دوراً بارزاً في هذا المجال ، اذ تعد الشعوب الصينية من اقدم الشعوب التي اهتمت بملاحظة الجو وظواهره نظراً لممارستهم الزراعة التي ترتبط بما يحدث من تغيرات جوية ، اما الاغريق والرومان فقد كانوا يؤمنون إيماناً مطلقاً بالظواهر الجوية وتاثيرها مما دفع بهم إلى التفكير بها والنظر لها بنظرة واقعية.
وكانت المحولات الأولى في هذا الجانب للعالم ( أبو قراط ) في كتابه الذي كان تحت عنوان ( الهواء والماء والاماكنAir , Water and Places ) وذلك عام ( 400 ق.م) ، كما يعد كتاب ( هيرودوت) وهو ( تاريخ الطقس والرياح الموسمية ) والذي ألفه عام ( 440 ق.م ) اول كتاب وصف فيه الظروف الجوية ، حيث ذكر فيه (( ان اعصاراً مصحوباً بوابل من المطر مرَّ على ( طيبة ) في مصر فدمر مزارعها ومبانيها )) ، كما يعد ( ارسطو ) من اعظم من تناول هذه الجوانب وكتب عنها في مؤلفه المشهور ( المترولوجيا ) عام ( 350 ق.م ) وفيه درس الظواهر الجوية دراسة منطقية وواقعية ، وقام ( بارميندس ) عام ( 500 ق.م ) بتقسيم العالم الى ثلاثة اقاليم هي : ( Torrid ) او التي اسماها المنطقة المحروقة والتي تقابل المنطقة الاستوائية وهي في اعتقاده خالية من السكان لارتفاع حرارتها ، والمنطقة الثانية هي ( Tempenate ) المعتدلة ، والمنطقة الثالثة Fungid وهي الشديدة البرودة والتي حدودها شمال المنطقة المسكونة والتي تتميز بان سكانها يختلفون عن البشر واطلق عليهم ( بالمتوحشين ) ، وان ارسطو وغيره من الباحثين في ذلك الوقت كان ينقصهم الأجهزة لقياس عناصر الطقس والمناخ ، ولهذا كانت اراؤهم ونظرياتهم تفتقر الى التحصين والبراهين .
ونظراً لان العرب أكثر شعوب العالم تاثراً بتاثيرات البيئة الطبيعية وفي مقدمتها خصائصها الطقسية والمناخية ، وهذا ما دفعهم الى الاهتمام بالظروف الطبيعية التي تواجه العربي في جزيرته ذات الظواهر الطقسية والمناخية القاسية ،حيث الجفاف والتقلب والتذبذب في عناصر الطقس والمناخ والذي دفعهم للتوصل الى تحديدات لم يسبقهم فيها أية مجموعة بشرية عن الرياح والامطار ومواسم سقوطها ، والذي مكنهم من التنبؤ بحالة الطقس فصول السنة الملائمة للتنقل بحيواناتهم ام للزراعة نتيجة ًلخبرتهم الطويلة بمراقبة طلوع ومغيب الشمس ، النجوم ، او ما يسمى بالغروب الكوني للمنازل القمرية، وكان العرب يحددون ذلك باسم النوء ( الجمع أنواء ) .
واسهم العلماء العرب المسلمون في تطوير المفاهيم حول الظروف الجوية ، ولم يتوقفوا عند حدود المفاهيم الاغريقية وانما تم تطويرها بالاضافات العديدة التي يمتلكونها من خلال ارثهم الجغرافي الكبير في المجالات الجوية سواء التي كانت تتم عن طريق الملاحظة المباشرة ام بالاستنتاج ، اذ كان للعرب كتابات متميزة عن الفلك والجو ، حيث ساعدهم في ذلك رحلاتهم البحرية بصفة خاصة في دراسة الدورة العامة للهواء على سطح الارض ، خاصة ًفي المحيط الهندي والذي كانت سفنهم تجوب مياهه بلا توقف خلال اشهر السنة ، استطاعوا تحديد نظام حركة واتجاه الرياح الموسمية ، وهم الذين اعطوها هذا الاسم الذي عرف فيما بعد إلى مصطلح (Monsoons ) ، كما انهم اول من اطلق تسمية ( الطوفان ) على الاعاصير المدارية التي كانت تحدث في المحيط الهندي وبحر العرب والتي تعرف حالياً بـ( التايفون Typhoon ) .
وتعد الكتابات التي وردت عند ( المسعودي وأخوان الصفا والقزويني والادريسي) وغيرهم قد تناولت ولاول مرة الظروف الطقسية والمناخية والعوامل المؤثرة عليها ، فضلاً عن مساهمتهم في إعطاء تفسير لتلك الظواهر، فقد ورد عن (المسعودي ) في كتابه (( مروج الذهب )) اشارات عديدة وواضحة عن الرياح ن فقد حدد اتجاهاتها وانواعها وشدتها ، كما أنه ربط بين مواعيد هبوبها وما يرافق ذلك من عواصف او زوابع في الخليج العربي والبحر العربي والمحيط الهندي ، كما في قوله : ((ومن الرياح ما يكون مهبه من النجم دون ما يظهر من قصر البحر ، ولكن من يركب البحر من الناس كبحر النيل وبحر العرب وبحر الهند وبحر اليمن وبحر قلزم ارياح يعرفونها في اوقات تكون فيها مهابها )) ، وهذا يعد طفرة في علم الطقس والمناخ .
كما حدد المسعودي العوامل المؤثرة في المناخ حيث ورد عنه (( قد تختلف قوى الارضين وفعلهما في الابدان لثلاثة اسباب ، كمية الهواء التي فيها ، وكمية الاشجار ، وكذلك مقدار ارتفاعها وانخفاضها ، فالارض التي فيها مياه كثيرة ترطب الابدان ، والارض العادمة للمياه تجففها ، واما اختلاف كونها من قبل الاشجار ، فان الارض الكثيرة الاشجار تقوم الاشجار التي فيها مقام السترة ، والارض المكشوفة من الاشجار العادمة لها حالها عكس حال الارض كثيرة الاشجار ، واما اختلاف قواها من قبل مقدار علوها وانخفاضها فان الارض العالية المشرفة فسيحة والارض الفسيحة المنخفضة العميقة حارة)) ، وهذا التوضيح للعوامل المؤثرة قريب الى حد ما لما يتم تناوله حالياً، كما تمكن بطريقة علمية من اظهار العلاقة بين جبال الهملايا وتاثيراتها على مسارات الرياح الموسمية وسقوط الامطار .
وبجانب المسعودي فقد حدد ( أخوان الصفا ) اثار وافكار عن الطقس والمناخ لم يتناولها أحد من قبلهم ، فقد لاحظوا حرارة الغلاف الجوي نتيجة لانعكاس اشعة الشمس ، وان تحول الاراضي المزروعة الى صحاري هو بفعل الحرارة، كما تناولوا التساقط تكويناً وتفسيراً بقولهم (( اذا ارتفعت البخارات في الهواء وتدافع الهواء الى الجهات ، ويكون تدافعه الى جهة اكثر من جهة ، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة ، ومن فوق له برد الزمهرير مانع ، ومن اسفل مادة البخارين متصلة فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل اجزاء البخار وتظم اجزاء البخار الرطب بعضها الى بعض وصار ماكان دخاناً يابساً ماء ونداء ، ثم تلتم الاجزاء المائية بعضها الى بعض، فان كان صعود ذلك البخار الرطب بالليل والهواء شديد البرودة منع ذلك من تصاعد البخار في الهواء قليلاً ، واذا عرض لها البرد صارت سحاباً رقيقاً )) ، واذاما تمعنا في ذلك لوجدنا بأنهم تتبعوا تكون صور التكاثف، بخار، تكون السحب ، سقوط الامطار وهذا اقرب الى واقع المعرفة التي تعلل وتوضح صور التكاثف ، كما اعطوا وصفاً لطبقات الجو وقسموها الى ثلاث طبقات اعلاها واكثرها حرارة (الاثير ) ، واوسطها قارسة البرودة واسموها (الزمهرير) ، والطبقة الدنيا القريبة من الارض واسموها بـ ( النسيم ) ، كما حددوا سمك الغلاف الجوي بـ( 12 كم ) معتمدين على حسابات هندسية وفلكية ، وتوصل إخوان الصفا إلى أن الأرض لا تسخن من الاشعاع الشمسي فقط وانما من الاشعاع الأرضي أيضا .
وأضاف ( القلقشندي ) آراء عن الأحوال المناخية من خلال إشارته إلى خط الاستواء وتصنيفه الأرض ، فضلاً عن ما أشار إليه في أسباب حدوث الرياح وأنواعها والى السحاب وكونه بخاراً متصاعداً من الأرض يرتفع من الطبقة الحارة إلى الطبقة الباردة فيثقل ويتكاثف فيصير سحاباً ، ووصف الرعد بأنه حدوث صوت هائل يسمع من السحاب ، وأن البرق ضياء يخرج من أطراف السحب ، ولم يترك ظاهرة من ظواهر التساقط إلا وأشار إليها .
ويعد ( أبن حوقل ) أول من فند نظرية اليونانيين عن المنطقة الاستوائية والتي وصفوها بالمنطقة المحروقة غير المسكونة ، إذ أكد بوجود السكان فيها بعد ان اجتاز خط الاستواء ، حيث وجد عدد كبير من الناس في مثل هذه المناطق . ووضع العالم ( الادريسي ) أول تقسيم للأرض ، إذ قسمها إلى سبع اقاليم مناخية على شكل احزمة مستطيلة افقية تبدأ في خط الاستواء وموازية له، وجعل بداياتها من الغرب الى الشرق . كما قسم ( المقدسي ) العالم سنة (985م) إلى ( 14 اقليماً مناخياً ) ، واضاف الى العوامل التي كانت سائدة عند اليونانيين عامل جديد هو الموقع بالنسبة لليابس والماء ، حيث اكد ومن خلال ملاحظاته بان السواحل الشرقية للقارات اكثر مطراً وحرارة من السواحل الغربية ، وهذا ما اكده العالم ( همبولت Humboldt ) بعد أكثر من (800 سنة ) .
فضلا ًعن ذلك فقد تضمنت مقدمة ( ابن خلدون ) حقائق علمية عن عناصر المناخ وتاثيراتها ، اذ ربط بين المناخ وعادات الشعوب وتقاليدهم وانشطتهم المختلفة ، والتي هي انعكاساً لتاثير الظروف الجوية ، وبذلك عُد ابن خلدون من اوائل من اكد على الحتم البيئي . كما تمكن العلماء العرب في القرن الحادي عشر الميلادي بتقدير سمك الغلاف الجوي بنحو ( 92 كم ) معتمدين في ذلك على طول المدة التي يمكثها الشفق فوق الأفق ن كما تمكن عدداً منهم خلال هذه الفترة التاريخية من إعطاء وصف كامل للظواهر الجوية كالرياح وتأثيرها على حركة الملاحة والأمواج والتيارات البحرية وحركة المد والجزر، وقد ورد وصف عن الرياح والتيارات والعواصف التي تحدث في المحيط الهندي في مؤلف ( ابن ماجد ) والمعروف بـ( الفوائد في أصول علم البحار والقواعد ) وفي ( الرسالة البحرية ) .