كتاب ونقاد ( أمين الكيلاني الحموي )
أمين الكيلاني الحموي
(1896م ـ 1943م)
نشأته وثقافته:
ولد المرحوم امين بن مصطفى زين الدين الكيلاني في مدينة حماه سنة (1896) ميلادية من أسرة عريقة ذات حسب ونسب وجاه وعلم وأدب لا يستعظم منها صدور العوارف ولا تالد المجد والطارف. هذا وان ديوان الشاعر المشهور الشيخ امين الجندي زاخر بوصف من أنجبته من شخصيات فاضلة، توفي ابوه ولما يتم الثالثة من عمره ودرس في المدارس الاعدادية التركية ونال شهادته ثم انتقل الى دمشق لاكمال تحصيله في مدرسة (عنبر التركية) الثانوية، وقبل ان ينهي تحصيله فيها دعي للجندية وتخرج برتبة ضابط احتياطي وعهد اليه بالدفاع عن إحدى المحطات قرب معان، ثم التحق بالثورة العربية وكان مرافقاً للقائد على جودت الايوبي العراقي، خاض المعارك الحربية وارتقى الى رتبة ملازم اول، اشترك في معركة تلكلخ يوم الاحتلال الافرنسي في 24 تموز سنة 1920 وأبدى شجاعة مشهودة، فكان يتقدم الصفوف مخاطراً ماضياً لا ينثني ولا يتردد، ثم استقال من الجيش اثر دخول فرنسا البلاد السورية.
اختياره للتعليم:
كان من العلماء النادرين الذين طلبوا العلم لله لا للمال ولا للجاه، قامت نخبة من افاضل حماه بتأسيس مدرسة دار التربية والتعليم الوطنية، وقد ساهم الملك فيصل حينذاك بهذا المشروع الثقافي الحيوي فتبرع لها بألف جنيه، وشاء الحظ ان تسعد هذه المدرسة بتعيين استاذاً للغة العربية فيها بترشيح من فضيلة شيخ حماه وعالمها الجليل الشيخ سعيد النعسان فكان المربي الناصح والمرشد الصالح واستفاد من مواهبه الكثيرون، وتفوق باللغة العربية من الطلاب من كانوا في حلقته الدراسية.
تآليفه:
لم تكن نفس الفقيد تقف في العلم عند غاية، فقد نشأ رحمه الله على منهج الكمال، فكان حسنة من حسنات الدهر، اشترك في النهضة التمثيلية التي قامت في حماه في سني 1920 ـ 1925 فكان البارع المتفوق في تآليف القطع التمثيلية واخراجها بشكل ساحر جذاب، مبتكراً في أسلوبه غزيراً في مادته، يمتزج مغزاها الوطني بالأرواح وتسري معانيها إلى أعماق القلوب، شهد له الفضلاء بالألمعية وقوة الادراك، سرى في مناهج التعليم والارشاد مسير القمر في افلاكه، من اطلع على مؤلفاته الخطية والمطبوعة يدرك مبلغ الجهد الادبي الذي بذله في سبيل تأليفها، ومن مؤلفاته التمثيلية (حول الحمى، يا فتى العرب، جد بالطلب، سر فبالتعب تبلغ الامل، وادي موسى وهي جزآن، واقعة الحسا، واقعة معان) وكلها مطبوعة في حلب عام 1920 وتدور حوادثها حول معارك الثورة العربية بقيادة المرحوم الملك فيصل وأرّخ وقائعها بقصص روائية خلابة، ثم رواية علي بك وهي هزلية، وكتاب دروس التاريخ ومنهج القراءة الجديد وقواعد التحرير وكلها مطبوعة. اما مخطوطاته فتاريخية وأدبية وسياسية، فالتاريخية في ستة مجلدات تقع في 1454 صحيفة والادبية على سبعة مجلدات فيها 2624 صحيفة.
أما السياسية فتبلغ سبعة عشر مجلداً تجمع 6604 صحائف، منها بعض تراجم كبار الرجال من عرب وغربيين، ومنها مقتطفات عن المثل السائر لابن الأثير، وتاريخ الانشاء والخطابة منذ مبعث الرسول الاعظم منقول عن الطبري، ومنتخبات مقتبسة من كتاب البيان والتبيين والوفيات لابن خلكان، وعيون الاخبار، ومنها كتاب المخصص لابن سيده في مجلد بلغ (713) صحيفة ولم يتمه، وترجم التاريخ العام للمؤرخ التركي المشهور رفيق بك في جزئين.
اما مخطوطاته السياسية، فتتعلق بجميع الحوادث وخاصة العربية والفلسطينية وكل ما قيل أو كتب عنها، وصور عن المعاهدات والاتفاقيات وسوى ذلك وجميعها معزوة لأماكن النقل بدقة متناهية تعطى ما كتبه صورة الوثائق، كان رحمه الله يكتب مقالاته السياسية بعنوان (الزفرات) وتنشرها جريدة القبس بأسلوبه الشيق الرائع.
فنونه:
لقد أدرك الوعي الفني الجامح وبرهن على نبوغ نادر، وأجمع الكل على الاعجاب به وتقدير مواهبه، فالذين عرفوه رأوا فيه مؤمناً عظيماً في وطنيته واخلاصه واهدافه، يتمتع بالذوق الحسن بجميع نواحيه، ادرك بقوة ذكائه وفراسته ان المرحوم الفنان السيد احمد الابري الحلبي مدير مدرسة دار العلم والتربية واستاذ الموسيقى فيها سوف لا يطول عهد بقائه في حماه فعزم على دراسة قواعد الفن الموسيقي، وتلقى عليه الدروس الموسيقية ثم سافر رحمه الله إلى حلب، فتابع دروسه على الموسيقار التركي المولوي حسن البصري، وتعلم العزف على العود والطنبور وتبحر في دراسة الفن الموسيقي من جميع نواحيه فكان عليماً بالتنويط والنغمات والأوزان، دأب على التعلم والتمرن على العزف حتى اصبح فناناً ممتازاً وعازفاً بارعاً توصل الى ما تصبو اليه نفسه في برهة يستحيل على غيره الوصول اليها.
لقد كانت ألحانه في غاية الرقة والابداع والانسجام، اعتمد فيها على الصدق والقوة في التعبير عن المعاني التي يلحنها، منها النشيد الذي نظمه شاعر العاصي الكبير الأستاذ بدر الدين الحامد بمناسبة حفلة التأبين التي أقيمت في حماه للمرحوم الشهيد الشيخ خالد الخطيب بتاريخ 3 آذار سنة 1933 ومطلعه:
يا فقيد لا توفيه العيون
حقه بالسهد والدمع الهتون
نحن من بعدك في ايدي الشجون
نذكر الأيام والذكرى فنون
فكان لحناً شجياً مؤثراً، لقد جمع رحمه الله أحسن التآليف الموسيقية من عربية وتركية وغربية واقتنى أثمن الآلات الموسيقية رغم عسر حاله.
شعره:
كانت قواضبه يراعته وقوافيه في الشعر كشعوره المرهف، واسع أفق التصور، مشبوب الخيال، اذا انتضى اليراع وابتغى الكتابة استيقظ جميع ما في روحه وقلبه وصدره من عواطف فغدا في ثورة وهياج وحريق وعاصفة، اما قوته الخطابية فكانت مستمدة من شيئين، من قوة شخصيته وروعة بيانه، تشهد له النوادي العلمية والمساجد الشهيرة أنه الخطيب المفوه، اذا اعتلى المنابر خشعت له الأبصار وهيمن على الجماهير كأنه يرسل الى نفوسهم تياراً من الجاذبية والسحر، يتطرق للمواضيع المتعلقة بالمصلحة العامة.
وفاته:
عين في سنة 1934 استاذاً في تجهيز حماه فكان أبرز أساتذتها طراً، ثم انتقل إلى تجهيز حلب عام 1937 وساهم في التدريس في معهدي الخسروية والفاروقية وفي كثير من الأعمال الخيرية.
كان يهوى صمت الليل، اما صمت الحياة فقد طاب له بلقاء ربه معيداً في الثاني لعيد الفطر عام 1361 الموافق يوم 10 تشرين الثاني 1943، وهكذا قصفت يد المنون القاهرة فجأة يانع غصنه الرطيب فكان فقده شاقاً على أهله وصحبه وتوجع لنعيه كل من عرف فضله، وفاضت قرائح الشعراء والخطباء بالمراثي منهم الشاعر الملهم الذي لا يحب الشهرة والظهور السيد ابراهيم العظم حيث قال في قصيدة رائعة مطلعها:
نفد الدمع في رثاء العوالي
ما لعيني وللدموع ومالي
ومنها.
يا شباباً ذوي طوته المنايا
آه منهن ما طوت من خلال
ومثالا من الكمال عليا
ما له في شبابنا من مثال
ومنها.
وإذا الخطب بالنعي مهيب
ان أصابت أمين عين الكمال
أمل ضائع تحوم عليه
طائرات القلوب والآمال
ومنها.
وحماة للعبقريين سجن
مدلهم مقطع الأوصال
يلمسون العلاء في البعد عنها
ويرون المفاز بالترحال
فهم بين خامل وصموت
وغريب معذب جوال