لون الروح
ها هو جبل تيمزقيدا يحترق ، تحصد النار غابته الجميلة ذات الخضرة الداكنة الضاربة إلى السواد ، غابة طالما متعت بصري بمنظرها من شرفتي ،و منحتني الشعور بالحياة بغيمها و ثلجها شتاء ، و بنسيمها و ظلها صيفا.
البارحة باتت النار تلتهم جنباتها و أركانها محولة ليلنا إلى جحيم ...
أحدق فيها الآن من شرفتي و في الحلق غصة ، كأن شطرا من عمري يحترق معها .
أمد البصر في حسرة إلى قمة تيمزقيدة ، يلوح لي في الأفق الأبعد من الجهة الأخرى في شعاب الذاكرة السحيقة ذلكم الليل البارد الحالك المشبع بالصقيع ، المفعم بالنعاس الشهي حين اقتلعنا من أسرتنا الدافئة بالمرقد إلى ساحة العلم تلسع وجوهنا ريح يناير، و أوامر القائد تتوالى كرعد السماء تتناغم معها الأحذية الخشنة تدق الأرض في موهن الليل بضربة موحدة تقطع غفوة العصافير في أشجار السرو ، و تزعج هجعة الموتى في الجبانة الكبرى التي بجوارنا ...
انطلقت بنا الشاحنات تكسر صمت الطريق ، تتمزق تحت عجلاتها رغبتنا البائسة في ساعة إضافية من النوم إذ تكور الرفاق على بعضهم و انكمشوا و تتداخلوا متراصين يقاومون البرد المتسرب من الفجوات و الثقوب ...
لم يكن أحد منا يعلم إلى أين نتجه ؟ و في أية مهمة نحن خارجون ؟ علم ذلك كان عند قائد الكتيبة وحده . كنا بين الحين و الآخر نرفع الغطاء و نمد البصر لنتبين أين نحن فيرتد إلينا البصر حسيرا ، لا شيء إلا ظلام دامس ونقاط من الضوء تلوح بعيدا لمداشر و قرى تسبح في بحر من السكون و النوم .
فجأة تكسر الإيقاع الرتيب الذي أدخلنا في منطقة رمادية بين الغفوة و الصحو و بدأت محركات الشاحنات تجأر مزمجرة ، و أخذ الطريق يتعرج و يتلولب ويكبنا على بعضنا فبدا لنا واضحا أننا نصعد في اتجاه قمة ما ...؟
- إلى أين الصعود يا رفاق ؟
- إلى الجلجلة
أجاب صديقي الشاعر، المقداد ،الذي كثيرا ما كان يطربنا بقصائد مترعة بالحنين و الأشواق ،ويسقينا كؤوسا من الحلم و الخيال الناعم تنسينا خشونة الثكنة .
غمغمت :
-الجلجلة ؟
كنت ألف الشاش على عنقي و فمي حتى أحتفظ ببخاري أدفئ به وجهي مسندا رأسي إلى رأسه و كتفي إلى كتفه .
-الجلجلة ، و ما أدراك ما الجلجلة ؟
وراح يفسر لي الجلجلة و ما فيها من رمزية عميقة للمعاناة و التضحية المستوحاة من صلب شبيه سيدنا المسيح عليه السلام ، و كيف يوظفها الشعراء في قصائدهم للتدليل على منتهى الآلام و العذاب ، ثم حرر كتفه من كتفي وراح يستشهد متحمسا بشعر محمود درويش مقلدا أداءه الرائع :
" عبثا تحاول يا أبي ملكا و مملكه
فسر للجلجة
واصعد معي
لنعيد للروح المشرد أوله "
وكأن الشاحنة تطيع أمره فتزأر مزمجرة في انعطاف حاد صاعدة عقبة كؤودا يكاد محركها يتصدع لها ، ثم تتوقف في بطحاء واسعة لا شيء فيها غير بياض الثلج الذي راح يومض مع انبلاج الصبح و انبعاث نسمات باردة تلسع وجوهنا بالصقيع و القر.
نزلنا من الشاحنات نتجمع في شكل مربع ناقض ضلع وكلنا ترقب متدمر لمعرفة المهمة التي خرجنا من أجلها في هذا الطقس الجهم ... ؟
ترجل القائد من سيارة لاندروفر و تقدم نحونا يفور فمه و منخراه بالبخار، و ألقى كلمته فينا :
"هذه الأرض الجرداء التي تقفون عليها كانت ذات يوم غابة كثيفة أبادتها فرنسا الاستعمارية بالنابالم في انتهاجها سياسة الأرض المحروقة ... مهمتكم اليوم أن تعيدوا لها الحياة ...سنشجرها ، سنعيد لها لونها االمستلب ... المجد و الخلود للشهداء الأبرار"
أومضت إشراقة رائعة في عيني صديقي الشاعر ، و أومأ لي مبتسما:
-نعيد للروح المشرد أوله .
فكرة تشجير الغابة المحروقة و تمكينها من استعادة لونها الأخضر السليب راقتني كثيرا و مدتني بروح عالية لمقاومة البرد ، و بطاقة هائلة لإنجاز المهمة.
لم يكن ذلك شعوري وحدي ، بل شعور عم جميع الرفاق الذين ما أن علموا بالمهمة حتى زايلهم سخطهم ، و دب فيهم الحماس و الاستحسان لبعث الحياة في الغابة التي أحرقها عدو الأمس .
وزعوا علينا الفؤوس و الرفوش مثنى مثنى ، و أخذ كل قائد فصيلة جنوده و حصته من الفسائل وانتشرنا كالنمل في الجبل بين شعابه و فجاجه .
كانت جهتنا وهدة مستطيلة تشرف على شعبة سحيقة .
كنت أحفر، و صديقي الشاعر يزيح التراب بالرفش وهو ما يفتأ يطلب مني أن أحفر أكثر عمقا حتى تضرب الشجرة بجذورها في التربة.
كان يردد في حماس :
هيا ، احفر
احفر عميقا
احفر أكثر حتى أحس بانتمائي المتجذر إلى هذه الأرض .
كلما سوينا حفرة و غرسنا فيها شجيرة اعترانا ذلك الشعور الممتع بأننا نصنع الحياة في أجمل رموزها .
رفع إلي وجها طافحا بالرضا متصببا بالعرق إذ سرت حرارة العمل في أجسادنا فانتفت برودة الثلج :
أتدري ، يا صديقي ، أحسنا اليوم ننجز عملا عظيما، جميلا في رمزيته ...أن تركنا البندقية والرصاص و حملنا الفأس و الرفش لنصنع الحياة ... ليت كل الجيوش تلقي سلاحها و تفعل فعلنا ...
كانت تعجبني قدرته على اقتناص العلائق الداخلية بين الأشياء و إظهار المعنى الخفي و الحميمي فيها ...فاحترمت فيه كفاءته الشعرية و أقررت له بالشاعرية...
قال لي مازحا وقد بان له تعبي :
- هيا يا صديقي لئن تغرس شجرة خير من أن تكتب قصة .
ولما أضفت :
- أو خير من أن تنظم قصيدة .
اعترض صائحا :
- لا ، القصيدة أخت الشجرة .
وحين أشرفت عملية التشجير على نهايتها انتقى فسيلتين ومد لي إحداهما :
- هيا ليغرس كل منا شجرة باسم من يحب .
و انتحينا عند آخر الوهدة ، بفرح طفولي غرسناهما ، و بكل ما اعتمل فينا من حب سوينا ترابهما .
"حياة "و"آمال"
خطيبته و خطيبتي .
شجيرتان متجاورتان كالتوأم خضراوان يانعتان ترفان بماء الحياة .
هز رأسه في ثقة :
- ستنموان ، ستكبران .
و حين أقفلنا راجعين إلى معسكرنا تركنا الجبل يزدهي بآلاف الشجيرات الواعدة بالغيم و المطر .
******************************
عادت عيني كليلة من شعاب الروح إلى ألسنة اللهب تتطاول كما يقذف البركان حممه ، تلتهم واجهة الجبل في شراهة و نهم مخلفة وراءها مساحات شاسعة من السواد ومثلها من الحزن في نفسي ، كنت أحسني أحترق هناك بين ورقها و أغصانها .
كانت أعمدة الدخان تتجمع في السماء تسد الآفاق وتخنق أنفاس الشيوخ و الأطفال و المرضى بالربو ، تمطر رمادا فوق السطوح و زجاج السيارات و حبل الغسيل .
-لماذا لا يتدخلون لإطفائها ؟
سألت ابنتي التي كانت ترتفق النافذة إلى جواري .
-يقولون إن جماعة كبيرة من الإرهابيين تتحصن هناك ، وقوات الأمن الآن يحاصرونهم و يحرقون الغابة عليهم ...
لم نعد نحتمل ضغط الدخان الخانق فأغلقت النافذة و صورة صديقي الشاعر المقداد تتخايل في ناظري غائمة متذبذبة بعيدا وراء مسافات الزمن ،و كأني أسمعه يتساءل معي :
-أما آن للروح المشرد أن يعرف مساره ؟