مذكرات في تاريخ الكنيسة المسيحية - القمص ميخائيل جريس ميخائيل ( 43 )
43- باكورة الآباء البطاركة:
القديس مرقس الرسول
هو أول وأشهر الشهداء في مصر وهو يوحنا الملقب مرقس وينحدر أصله من اليهود الذين كانوا قاطنين بالخمس المدن الغربية المسماة "بنتابوليس" Pentapolis التي كانت تقع في منطقه برقه بشمال أفريقيا. وقد أنشأ اليونان هذه المدن فيما بين القرنين السابع والخامس الميلادي على حدود مصر الشمالية الغربية. وكان ميلاد القديس مرقس في مدينة القيروان التي تقع في إقليم ليبيا بهذه المنطقة. وكان مرقس منذ ولادته ينعم بما كان لأسرته من ثروة كبيرة وأراضي زراعية شاسعة ولذلك تمكن أبواه من أن يهيئا له أفضل سبل التعليم والثقافة. فأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، كما أتقن اللغة العبرية وتعمق في دراسة كتب التوراة والناموس اليهودي. غير أن بعض القبائل المتبربرة من البدو هجمت على أسرة مرقس في القيروان وهبتها -وكان ذلك في عهد الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر- فاضطرت هذه الأسرة الكريمة إلى الهجرة، ومن ثم نزحت إلى فلسطين موطن أجدادها الأولين. وكانت قد استقرت هناك حين بدأ السيد المسيح ينادي ببشارته، وبذلك أتيح للقديس مرقس في حداثته أن يري السيد المسيح ويؤمن به ويصبح من تلاميذه. وكذلك تبعته أم مرقس واستضافته في بيتها. وصارت من النسوة اللاتي يخدمنه، كما كان بيتها هو أول كنيسة مسيحية في العالم، ولذلك كانت لهذه السيدة مكانه عظيمة بين المسيحيين الأوائل. وفي بيتها تناول السيد المسيح عشاءه الأخير مع تلاميذه عشية صلبه. وفيه كان يجتمع التلاميذ بعد قيامه السيد المسيح، حيث دخل عليهم وأظهر لهم نفسه. وفي هذا البيت حل الروح القدس عليهم. وحين خرج بطرس من السجن الذي وضعه فيه هيرودس مُزْمِعًا أن يقتله بسبب تبشيره بالمسيحية. ذهب بطرس مباشرة إلى ذلك البيت. والراجح أن مرقس هو الشاب الذي تبع ليلة تسليمه، إذ يقول في الإنجيل الذي يحمل اسمه:" وكان يتبعه شاب يلف جسده العاري بإزار فأمسكوه، فترك الإزار وهرب عاريًا" (مر 14: 51، 52).
وقد بدأ القديس مرقس كرازته مع بطرس الرسول في منطقة اليهودية، وفي جبل لبنان، وفي بيت عنيا، وفي مناطق من سوريا ولا سيما أنطاكيا حتى سنة 45 ميلادية – ثم كرز مع القديس بولس وبرنابا في رحلتهما الأولى في قبرص وفي باخوس، حتى إذا وصلوا إلى "برجه بمفيلية" تركهما هناك وعاد إلى أورشليم سنة 51 ميلادية. ثم ظهر في إنطاكية مرة أخرى بعد مجمع أورشليم واشترك مع القديسين. وبولس في تأسيس كنيسة روما. وبعد ذلك قصد القديس مرقس وحده إلى مسقط رأسه في شمال أفريقيا حيث بشر الخمس مدن الغربية وهي القيروان، وبرينيكي وبرقه وارسينوي وابولونيا.
وكانت هذه المدن في ذلك الحين تحت حكم الرومان، وكان شعبها خليطا من اليونايين والليبيين والرومان واليهود وكانت ذات عبادات وثنية وثقافة يونانية. وقد وصل القديس مرقس إلى هذه البلاد في نحو سنة 58 ميلادية. وهناك واظب على التبشير، وكانت تجري على يديه كثير من المعجزات، مما جذب إليه كثيرين من المؤمنين فيقول ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين في كتابه "تاريخ البطاركة" فلما عاد القديس مرقس من روما قصد إلى الخمس مدن أولًا، وبشر في جميع أنحاءها بكلام الله، واظهر عجائب كثيرة، حتى أنه أبرأ المرضي وطهر البرص وأخرج الشياطين، بنعمة الله الحالة فيه فآمن بالسيد المسيح كثيرون وكسروا أصنامهم التي كانوا يعبدونها وعمدهم باسم الآب والابن والروح القدس. وبعد أن قضي مرقس الرسول يبشر في الخمس المدن الغربية نحو تسع سنوات واتجه بعد ذلك إلى الإسكندرية سنة 61 ميلادي وكانت هي عاصمة مصر في ذلك الحين، كما كانت العاصمة الثقافية للعالم كله – وكانت مدرسة الإسكندرية الفلسفية الشهيرة هي مركز العلم والفلسفة في كل الإمبراطورية الرومانية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وقد كانت تزدحم بعدد عظيم من كبار العلماء كما كانت تزدحم مكتبتها الشهيرة بمئات الآلاف من الكتب النادرة والمخطوطات المتعمقة في كل العلوم، وكانت تلك المدينة الضخمة حينذاك تضم نحو مليون شخص من المصريين والرومان واليونان واليهود والفرس والأحباش وغير ذلك من الأجناس التي تعتنق عددا لا يحصي من ديانات الأمم مختلفة. وقد وقف مرقس وحيدًا أمام كل هذه الديانات والفلسفات يتأهب لأن يصارعها جميعًا وأن ينتصر عليها كلها.
وقد كان قدوم مرقس الرسول إلى الإسكندرية في الغالب عن طريق الواحات، ثم الصعيد ثم تقدم شمالًا نحو بابليون ويقال أنه في هذه الفترة كتب إنجيله باللغة اليونانية ثم غادر بابليون إلى الإسكندرية، وهو لا يفتأ يجول مبشرا في الطرقات – وكان حذاؤه قد تمزق فمال علي إسكافي في المدينة يدعي انيانيوس ليصلحه. وفيما الإسكافي يفعل ذلك دخل المِخراز في يده فأدماها، فصرخ قائلًا "ايس ثيئوس" أي "يا الله الواحد" فانتهز القديس مرقس هذه الفرصة واخذ يده فشفاها، ثم راح يبشر ه بذلك الإله الواحد الذي هتف باسمه وهو لا يعرفه، فآمن الإسكافي بكلامه ودعاه إلى بيته، وجمع له أقاربه وأصحابه فبشرهم بالمسيح وعمدهم فكانوا هم باكورة المؤمنين في مصر كلها.
فلما رأي الوثنيين بوادر نجاح الرسول في بشارته حنقوا عليه وراحوا يتربصون به الدوائر ليفتكوا به ولكنه واصل أداء رسالته غير عابئ بما يدبرون، فأقام إنيانوس أسقفًا، ورسم معه قسوسًا وشمامسة، وشيد أول كنيسة بالإسكندرية في الجهة الشرقية منها عرفت باسم "بوكاليا" وبذلك ازداد عدد المؤمنين زيادة كبري في وقت وجيز. وفي ذلك يقول المؤرخ السكندري يوسابيوس الشهير "كان جمهور المؤمنين الذين اجتمعوا هناك في البداية من الكثرة حتى أن الفيلسوف اليهودي فيلون وجده أمرًا جديرًا بالاهتمام أن يصف جهادهم واجتماعاتهم وتعزياتهم وكل طرق معيشتهم ويقول الأب شينو في كتابه "قديسو مصر" إن الحياة التي تدعوا إلى الإعجاب في مصر بعد الإيمان جعلت الفيلسوف اليهودي الشهير فيلون يؤكد فيما بعد أن الإسكندرية أعادت إلينا ذكر الأيام الأولى التي كانت لكنيسة أورشليم.