علم نفس - الهوية ومراحل العمر
والهوية ليست جامدة، ولكنها تتطور من خلال التوحدات، والاختيار بين تلك التوحدات، خلال مراحل النمو المختلفة، إذ إنها دينامية داخلية، تعيد تنظيم نفسها، من دون توقف، ويمكن ملاحظتها خلال مراحل النمو، كما يلي:
1. الطفل في عامه الأول (مرحلة الأمان)، أو ما يسمى بمرحلة الثقة الأساسية، في مقابل الشك (Trust versus Mistrust) وفيها تكون هوية الطفل تابعة لهوية الأم؛ فهو لا ينفصل عنها، يعتمد عليها في كل شيء. وهي تلبي حاجاته، من وجهة نظرها، من دون احتجاج منه أو رفض. وهي عندما تشبع حاجاته، بصورة مناسبة، وتستجيب لبكائه، فإنها تصبح لديه أمّاً طيبة (Good Mother)، وتعطيه بذلك الشعور بالأمان والثقة، بأن الآخر، سيخف إلى نجدته وإشباع حاجاته، عندما يطلب ذلك، وهذا يبني ثقته الأساسية بالآخر. أما عدم الاستجابة، والإهمال في رعايته، فيخل بثقته بالآخر، وشعوره بالأمان. ومن ثم، ينمو الشعور الداخلي بالرفض من الآخرين، فيقل الشعور بالقيمة، ويقل، تبعاً له، الشعور بتقدير الذات (Self Esteem). فتهتز الهوية التابعة للأم، والأساس الذي تبنى عليه الهويات اللاحقة.
2. الطفل في عامَيه، الثاني والثالث، من العمر: إذ تكون عضلات المشي قد نمت، وأمكنه الانفصال عن أمه. فهو يمشي بعيداً عنها، سعيداً بقدرته على الانتقال من مكان إلى آخر، منتصباً على قدَميه. وهو سعيد، كذلك، بقدرته على الاستقلال، والشعور بأناه المنفصل (بذاته). ويؤكد ذلك بظهور كلمة "لا"، التي تعني الرفض للتبعية، وتأكيد "الأنا" المنفصل بظهور كلمة "أنا". وفي هذه المرحلة، يظهر العناد، كصفة سلوكية، لتأكيد الاستقلال وعدم التبعية. وهنا، تكون الهوية المنفصلة قد بدأت بالظهور. وإذا حاولت الأم أن تعوق شعور الطفل بالاستقلال، مفضلة أن تجعله تابعاً، في هذه المرحلة، كذلك، فإن ذلك سيؤدى إما إلى استسلامه وتبعيته، من دون صراع، أو إلى إفراط في العناد ومحاولات الاستقلال. وكلاهما تطرّف، أحدثه إصرار الأم على عدم انفصاله ورعايتها المفرطة (Over Protective Mother). وسيُحدث ذلك مشاكل لاحقة، في مرحلة البلوغ.
3. الطفل في أعوامه، من الرابع إلى السادس: وهي المرحلة، التي يشعر فيها بقدراته الجسدية المتميزة، في الحركة والجري والرقص، ومعرفته إلى أي من الجنسين هو ينتمي (الذكور أو الإناث)، ومقدار اعتزازه بهذا الانتماء، وعدم شعوره بالنقص الجسدي، وقبوله الاجتماعي والسرور من قِبل الآخرين لمبادرته، وإعطائه الاهتمام الذي ينشده.
وكل هذا يسهم في شعوره بهوية، جسدية ونفسية واجتماعية، متميزة. وعدم تحقق ذلك، يجعله محبطاً، شاعراً بالذنب، بما يؤثر في شعوره بالهوية، في هذه المرحلة، ويؤثر فيها، مستقبلاً، في مرحلة البلوغ.
4. الطفل في أعوامه من السابع إلى البلوغ: وهي مرحلة التوحدات المتعددة، التي يبدأها بالتوحد مع الأب، من نفس الجنس، ومع المدرس ورفاق المجموعة، بغية الوصول إلى الأنا المثالي (Ego Ideal)، وذلك من خلال استدخال صفات الآخر واستدماجها، لتكون جزءاً من الذات (الأنا). وعدم وجود نماذج مناسبة في حياة الطفل، يتوحد بها، يجعله مرتبكاً فاقداً، للثقة بنفسه، وليس له مرجع، يقارن نفسه به.
5. سنوات المراهقة: وهي المرحلة الانتقالية، بين الطفولة والرشد. فبعد أن كان الطفل، في كل تلك السنوات السابقة، خاضعاً لسيطرة الكبار، وليس له خيارات مطلقة، وغالباً يؤدي، من دون نقاش، ما يطلبه منه الآخرون من الكبار، أصبح يفرض اختياراته، ويتشبث بها، إذ توقّف عن توحداته الجزئية السابقة، وأصبح يبحث عن ذاته، مسترشداً بمستوى الطموح، وثائراً على طفولته بقدر ما هو ثائر على الكبار، فيفقد الوالدان موقعهما المرموق في نفسه، وتقل الشحنة العاطفية تجاههما، التي يوجه جزءاً منها تجاه نفسه. فأصبح يهتم بجلده وملابسه ومظهره، وجزء آخر، يوجهه نحو رفاق المجموعة. وجزء ثالث نحو أبطال التاريخ، ومن يجسدون له الأنا المثالي. ومع نقص العاطفة، ظهرت السخرية من الكبار، لتبرير الثورة عليهم. ولكنه، في الوقت نفسه، يحاول أن يوفق بين رغباته الداخلية وثورته، وبين ما يطلبه منه المجتمع، بشكل عام، وليس الوالدين فقط، ولذا فإنه يكون في صراع، لتحقيق هوية، يرضى هو نفسه عنها، ويقبلها الآخرون، الأمر الذي قد يوقعه في أزمة، أطلق عليها "أزمة الهوية" (Identity Crisis) وأحياناً تشتد تلك الأزمة، وتصل إلى الاضطراب. وهو ما أورده الدليل الإحصائي التشخيصي الثالث، المُرَاجَع للاضطرابات العقلية(Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders-III-) (Revised)(DSM-III-R) (1987)، ويمكن تفصيله في ما يلي: