إحياء الرِّق قبل قيام السَّاعة

إحياء الرِّق قبل قيام السَّاعة

كيف أقنع غريباً لا يعرف لغتى، ولا يفقه عن دينى ما يؤهله أن يحكم ويدرك أن القرآن يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وهو لا يطالع فى وسائل إعلام بلده المرئية والمسموعة والمكتوبة إلا أخبار القتل والسَّبى والسفك والأسْر والحرْق والتهجير القادمة من بلدان المسلمين فى الشرق العربى، حيث صارت داعش وأخواتها الكثيرات من الجماعات المتأسلمة المُتاجرة بالدين المادة الإعلامية الأساسية؟

هل هذا الغريب يمكن له أن يقتنع برسالة الإسلام السمحة، بعد كل ما يرى ويقرأ؟

الأمر لا شك مُخْزٍ ومُزعج وصعب، ويجعل مهمة من يريد أن يُعدِّل أو يُحسِّن أو يُغيِّر صورة الإسلام والمسلمين فى ذهن الآخر الغربى مُركَّبة ومُعقَّدة وصعبة، لكنها ليست مستحيلة بطبيعة الحال، لو أخلصنا النيَّة، واجتهدنا فى تقديم الحُجج والبراهين، وابتعدنا عن الحلول التقليدية، والمُؤقتة والمندفعة والإنشائية، وقام المعتدلون بخطواتٍ جادة وخلاقة فى تقديم الإسلام دون مذهبية أو طائفية، أو انحياز، لأنه لم يهزم المسلمين- على مدار تاريخهم- سوى التشدُّد والتزمُّت والتطرُّف والسجن داخل جماعة أو طائفة أو مذهب، و«التنطُّع فى فهم الدين وتطبيقه سلوكًا».

ويعتمد الداعشيون وسواهم من «المُجاهدين» فى سبيل السلطان والسلطة أسلوب التعميم منهجاً لأدائهم وتوجههم، ويُصدِّرونه إلى الآخر بشكلٍ يومىٍّ.

والتعميم- كما يعرف الجميع- ابتسارٌ واختصارٌ مُخِلٌّ، واستسهال، بل هو فى كثير منه استهبال، وهروب من البحث والسؤال والتمحيص والتدقيق، وهو نقص معرفةٍ، بل ربما يكون انعدام معرفة وعلم بالأصول والمُتُون، ولذا يلجأ تُجَّار الدين إلى التعميم فى إطلاق أحكامهم، حول مسائل كثيرة فى الشريعة والفقه، وإن رددت عليهم، تكون الإجابة: إن من يُشكِّك فى جماعةٍ ما من الجماعات أو طائفةٍ من الطوائف صار كافرًا.

ومشكلة هؤلاء أنهم «يؤمنون» ببعضٍ ممَّا جاء فى القرآن، أو ممَّا جاء به الرسول «ص» فى أحاديثه، ويُنكرون البعض الآخر، أو يهملونه، أو ينسونه، أو يحذفونه، أو لا يذكرونه أو يتجاهلونه.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) سورة البقرة، الآية ٨٥.

وهؤلاء القوم يأخذون من السورة ما يناسبهم، ولا يُكملون بقيتها، اعتمادًا على جهل البسطاء من الناس، وعدم درايتهم الدراية الكافية بنقد خطابهم الدينى ودحضه، إذْ هؤلاء الكذبة يطالبون بـ«إحياء الرق قبل قيام الساعة»، مُتجاهلين بقية آيات سورة التوبة، فمثلاً عندنا فى مصر لا يُقاتل الأقباط المسلمين، وفى العراق لا يقاتل الأيزيديون والمسيحيون المسلمين، وليس هناك أىُّ داعٍ أو مُبرِّر لسبيهم وقتلهم وسرقتهم وحرق بيوتهم وبيع نسائهم واغتصابهن، والمُتاجرة فى أعراضهن.

ونحن فى مصر أو فى سوريا أو فى العراق لسنا مُشركى مكَّة، كما يفعل خوارج العصر، حاملينَ على أكتافهم تلالاً من الادَّعاءات والأكاذيب والضَّلالات والانحرافات، وحتى لو كان يعيش بيننا «كُفَّار»، فليس لأحدٍ- كائنًا من كان- أن يُجبرهم على الدخول فى الإسلام، فلم يكن الإسلام يومًا دينَ إجبارٍ أو إكراهٍ على إتيان شىءٍ لا يريده المُكرَه (لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ) الآية ٢٥٦ من سورة البقرة، و(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) الآية ٢٢ من سورة الغاشية.

وإذا كان هذا هو الإسلام الذى يُصدِّره الداعشيون، ومن قبلهم ومن بعدهم أصحاب التشدُّد والتزمُّت، فلا أحد يريد الإسلام، وسينفر الجميع من هكذا دين، لأن الغرب عبر وسائل إعلامه يحتفى ويحتفل بما يفعله الدواعش من جرائم، غير عارفٍ بحقيقة الدين الصحيح، فمن أين له بآيةٍ كهذه «... مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى» الآية الأولى- سورة طه، أما «الدين» الذى يرونه على أيدى الغزاة القتلة فهو «دين» سفك وسبى وسلخ وسوم للعذاب وقتل وتشريد وتهجير وذبح وتفجير وتدمير وتغريق وتحريق.

فالدواعش يضطهدون غير المسلمين، ويجبرونهم على الرحيل عن ديارهم إن لم يدخلوا فى دين الإسلام، مُتخذينَ منطقًا لم يأت به الدين، ومُتحجِّجين بما ليس فى كتاب الله، وإلا ماذا تفعل مئات الآيات فى القرآن من عينة: «أَفَأَنْت تُكْرِه النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ»، «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ».

داعش التى يسبى «رجالها الجوف» حسب تعبير «تى. إس. إليوت» (٢٦ من سبتمبر ١٨٨٨- ٤ من يناير ١٩٦٥) آلاف النساء، مُعتبرينَ إيَّاهن ملك يمين لهم، يغتصبونهن باسم الله، ويُعاشرونهن بالإكراه باسم الإسلام، مُستحلِّين ما حرَّم الله، مُشبِعينَ شهواتهم الحيوانية الرخيصة والدنيئة تحت رعاية فتاواهم الشاذة التى يصدرونها صباحًا ومساءً، وهم بذلك يُشوِّهون ويحرِّفُون صورة الإسلام الحقيقية.

وليس عند داعش سوى أمرين فى التعامل مع النساء المسبيات، إذْ رأوا أن الأيزيديات مشركات، ومن ثم ينبغى سبيهن، والاستمتاع بهن وبيعهن، والتصرف فيهن كما يشاء «رجالها»، حيث لا يجوز لهن دفع جزية، أمَّا ما عداهن من النساء، ويقصد بهن «نساء المسلمين المرتدين»، فلا يجوز سبيهن، بل ينبغى استتابتهن أو قتلهن، مع أن الإسلام يطلب عتق الأسرى معتبرًا عتق العبد زكاةً «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، سورة التوبة، الآية الستون. وهذا يعنى أن على المسلم أن يدفع زكاته لتحرير من أُسِر، أو من سبيتْ، لكن ما نراه الآن هو سعى للأسْر والسَّبى، مع أن الناس متساوون، وإن الأكرم عند الله بتقواه، إذ مضى زمن السيد والعبد، فالذى يبيع حُرًّا (حرَّةً)، ويأكل ثمنه، سيكون الله خصيمه يوم القيامة «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ».

والإسلام له بعد إنسانىٌّ عميق، ويحضُّ على المنح والعطاء والرحمة للبشر جميعاً من شتَّى الملل والديانات، سماوية كانت أم أرضية دون تمييز، والدولة الإسلامية التى يحلم بها الدواعش دولة لا تعرف الحرية، وهى عدو للحضارة والمدنية، وللدين نفسه فى وجهه الحقيقى، ولمن يختلف معها فكرًا أو دينًا أو عقيدةً، وخطاب هذه الدولة لا يقدم بديلاً لشىء يمكن الالتفاف حوله، بل هو خطاب همجىٌّ غوغائىٌّ لا يتكئ على منطق أو عقل أو فلسفة ما، ولا يعرف حتى حقيقة الدين.

وإذا كان القرآن ككتابٍ سماوىٍّ أداة أساسية لبناء حضارى للأمة، وسببًا لتقدمها وازدهارها، رأينا بعض الذين خرجوا على قيم هذا الكتاب ومبادئه، يجرون الأمة نحو التعصُّب والحقد والفرقة والعبودية بحجة سيادة العالم، وجعله يتحدث بلسانٍ واحدٍ، ودين واحد، وهذا ما لا يمكن تصوره، وما لم يأت به كتاب، لأن الله خلق الشعوب ليتعارفوا.

بقلم أحمد الشَّهاوى

٢٧/ ٩/ ٢٠١٥