آثار وفوائد الصبر
في ختام مطالب هذه المقالة ينبغي أن نتحدث عن فوائد وآثار الصبر البناءة. مع أننا قد أشرنا إليها في طيات الكلام السابق، ولكن لأجل المزيد من الإطلاع على الآثار الفردية والاجتماعية للصبر، نتحدث هنا بشيء من التوسعة. إلاّ أننا لن نتعرض إلى الفوائد الأخروية، أي ثواب وأجر الصابرين يوم الحساب مع أنه لا يمكن التفكيك بينها وبين الآثار والفوائد الدنيوية. إننا نريد هنا التعرض إلى الآثار التي تحصل في نفس هذه المرحلة من الحياة، أي الحياة الدنيا فيما يتعلق بالفرد الصابر والمجتمع أو الفئة الصابرة. فمن أين نبدأ، وما هي الفائدة الأولى التي تطرح نفسها؟
نجيب بجملة جامعة: الدنيا والآخرة والأهداف الإنسانية، بل وأيضاً المقاصد الشريرة، أي كل مقصد يريده الإنسان مرهون بالصبر والثبات.
وإذا احتجنا إلى الاستدلال على هذا الأمر، ولم تقنعنا تجارب البشر طوال تاريخهم الممتد عبر الأزمنة والعصور، فإن هذه المعادلة القاطعة والواضحة كافية: "إن الوصول إلى أي هدف يحتاج إلى السعي، والسعي يستلزم الصبروالاستقامة (الثبات عليه)". وكل إنسان قد خبر هذه المعادلة في حياته في العديد من الأحداث.
الثبات والنصر
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى كلماته الملهمة للحكمة:
"لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان".(14)
وفي حديث آخر يبين لنا (عليه السلام) هذا المعنى بعبارة أخرى قائلاً: "من ركب مركب الصبر، اهتدى إلى ميدان النصر".
وفي حرب صفين قال (عليه السلام) في خطبة له يحث ويعبئ الجند: "واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر".
فهل حقاً ان الصبر والثبات موجب للوصول إلى الهدف؟ وإذا كانت هذه قاعدة عامة وقانوناً ثابتاً لا يقبل التخلف، لماذا نشاهد طوال التاريخ أفراداً أو جماعات لم يصلوا إلى أهدافهم مع أنهم كانوا في ميادين العزة يبذلون ما ينفع الثبات والمقاومة، ولم يحققوا النصر أو يذوقوا حلاوته؟!
في صدر الإسلام يوجد حوادث ليست بالقليلة شاهدة على هذا الأمر، مثل عاشوراء وشهادة زيد بن علي (عليه السلام) والتوابين و..
ولكي يتضح الجواب عن هذا السؤال الذي يطرح أكثر الناس نحتاج إلى شيء من الدقة. فلعل هؤلاء الناس الذين يطرحون مثل هذا التساؤل ويعتبرون هذه الأحداث التاريخية التي لم تثمر أو تصل إلى غايتها بحسب الظاهر (كعاشوراء وشهادة زيد و...) هي أمور تنقض هذا القانون العام (قانون الصبر والظفر).
إن هؤلاء لم يدركوا بشكل صحيح هدف وغاية كل واحدة من هذه الحوادث والوقائع، والتي يكون تحقيقها لهذا الهدف أو تلك الغاية هو الانتصار والفوز.
لهذا نبدأ أولاً بالإجابة عن سؤال يتعلق بهدف هذه الحوادث التاريخية، وبالإجابة عنه بشكل صحيح ستتضح النتيجة، وهي أن أصحاب هذه الحركات لم يهزموا إطلاقاً!
وكمقدمة ينبغي أن نلتفت إلى أن الأهداف تختلف من حيث قربها وبعدها عن التحقق. فبعضها تكون نتيجتها سريعة وقريبة، والآخر يحتاج إلى أزمنة طويلة: كغرس نبتة وتأمين كل ما تحتاجه حتى تنمو وتثمر.
فإذا تأمنت هذه المقدمات، ولم يحصل أي تقصير في إعدادها من خلال مواجهة العوامل السلبية والمفسدة، فإنها ستثمر حتماً. ولكن بعض الأشجار تحتاج من الناحية الطبيعية إلى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة.
فلاشك أن المقصد النهائي من تربية هذه الغرسة التي تحتاج في نموها إلى عشر سنوات، هو الحصول على الثمار. ولكن أن نكبر هذه الغرسة شيئاً ما. وإذا مرت سنة بعد سنة فعلى المزارع الذي لم يكس عن الاهتمام بها، أن يفرح أو يطمئن بأن تعبه في هذه السنة أو تلك لم يذهب هدراً. ولكن بالنسبة للمشاهد من بعيد والذي اطّلع على أتعاب وزحمات هذا المزارع الكادح والصبور، فإنه بعد مرور السنة الأولى، وحيث إنّه لم يشاهد أية ثمرة، فإنه سيخطِّئ المزارع انطلاقاً من اليأس وعدم الوثوق، وينقض القول المعروف "بعد الصبر يأتي الظفر"، ويستدل على ذلك من خلال تجربته الناقصة. بينما يعرف الجميع أن مثل هذا الرأي يرجع إلى قصر النظر وقلة الصبرويقولون لهذا الناقد أنه لا ينبغي أن نتوقع نتيجة عمل عشر سنوات في أول سنة.
وهكذا، فإن نهضة عاشوراء، وكل الوقائع التي كانت امتداداً لها وعلى أساس توجهها قد حققت ما كانت تصبو إليه ووصلت إلى الهدف الذي رسمته.
هذه الوقائع، كانت كل واحدة منها خطوة ناجحة باتجاه "القضاء على السلطات الغاصبة وإقامة المجتمع الإسلامي المنشود". ولاشك بأنه بعد هذه الخطوات الأولى، لو استمر اللاحقون بالمسيرة، لتحققت الغاية المطلوبة من وراء مجموع هذه المساعي والتحركات. أما أن نتوقع تحقق مثل هذا الهدف من سعي شخص واحد أو عدة أفراد في مرحلة ما، فإنه في غير محله.
وفي المثال السابق يمكن أن نقول لذلك المشاهد القليل الصبر والخبرة: إن أولئك الذين أدركوا متاعب المزارع وأشرفوا على هذه الأعمال يعلمون جيداً أن كل يوم يمضي وكل ساعة ستكون مفيدة ومنتجة، وهم يدركون نتائجالصبر في كل لحظة قبل أن تأتي أختها. فمرور سنتين من العمل يعني اقتراب الغرسة من النضج. ولو لم يكن هذا السعي في هاتين السنتين لتأخرت الثمار سنتين. ولعله يضيع الهدف النهائي ولا تصل إلى المطلوب.. فهل الواقع غير ما ذكرنا؟!
وإلى جانب هذه الحقيقة، يوجد حقيقة أخرى؛ وهي أنّه بعد بروز مانع يمنع المزارع الحريص من الاستمرار في عمله، إذا لم يتابع مزارع آخر عمله، ولم يكمل أعمال السنة الثالثة والرابعة، فإنّ هذه الغرسة أو الشجرة لن تنضج أبداً.
ولاشك بأن نتيجة الصبر في السنتين الأوليين قد حصلت، كما أن قلع أو قطع شجرة متجذرة أو إزالة صخرة كبيرة بدون التجهيزات اللازمة واليد القوية ليس ممكناً، ولن تعطي أية نتيجة بدون وجود الصبر. ولو أنجزت أول يد قوية وصبورة المقدمات الأولى اللازمة وبسبب مانع ما توقفت، ثم أكملت الأيدي الأخرى العمل فإنها ستقترب نحو النتيجة المطلوبة.
وقد قام زيد بن علي (عليه السلام) بسبب ظهور علامات نصر ولكنه لم ينتصر، وإنمّا حقق ما كان متوقعاً من مثل نهضته. فإنّ قيامه واستشهاده كان ضربة على الصخرة الصلبة لحكم بني أمية. هذه الصخرة التي يتطلب تحطيمها عدة ضربات متتالية. وعندما توالت الضربات على أثر تلك الضربة انهارت هذه الصخرة السوداء التي كانت تجثم على صدر الأمة الإسلامية.
ولاشكّ بأنه لو لم تكن الضربة الأولى لما حققت الضربات اللاحقة مطلوبها، أو أنّها ما كانت لتحدث (تلك الضربات).
وكأن الحديث يشير إلى ما نتحدث عنه، بأن شهادة الحسين بن علي (عليه السلام) كان سبباً لسقوط التيار السفياني وشهادة زيد بن علي (عليه السلام) سبباً لسقوط الحكم المرواني.
الآثار الفردية والنفسية للصبر
بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية للصبر التي هي الانتصار والوصول إلى الهدف والمقصد، يوجد آثار أخرى إيجابية وذات أهمية تنعكس على روحية ونفسية الصابر. وبالإطلاع على هذه الآثار المدهشة، يتيسر لنا فهم الكثير من التضحيات التاريخية، وخصوصاً تضحيات أبطال كربلاء العظيمة. وما نقصده من الآثار النفسية هو تلك الآثار التي تتجلى في نفس الشخص الصابر، وتعود عليه بنتائج داخلية قبل تحقق النتائج الخارجية. وأول تأثير إيجابي وبنّاء للصبر هو أن الصابر يزداد قوة وعزماً ويشتد رفضه للهزيمة والانكسار، مثل حال التمارين الرياضية الصعبة. وهذه الحالة شاملة لكل الأمور والقضايا في الحياة سواء كانت دنيوية أو أخروية.
وأن جميع الهزائم التي تقع أثناء المواجهات الاجتماعية والدينية والعملية، تنبع من الهزيمة الروحية وقبول الانكسار. ومثل هذه الروحية المهزومة، تكون آثار الهزيمة فيها مضاعفة عن الهزيمة والضربة التي تتلقاها من جراء عدم اكتمال العتاد العسكري وتمامية المناورات. فالجندي الذي يدير ظهره هارباً عند مواجهة العدو في ساحة المعركة، هو الذي يكون قد هزم نفسياً قبل عجزه الجسماني والمادي. بينما إذا لم يهزم روحياً ومعنوياً، فمن المستحيل أن يولي هارباً فاراً من ساحة المعركة. فالخاصية الأولى للصبر في البعد الفردي هو إيجاد مثل هذه الروحية في الشخص والصابر.
إننا نجد الناس عند حدوث المصائب في حياتهم ـ كالخسائر المادية والأمراض والآلام والموت... ـ لا يصبرون، بل يستسلمون ويجزعون. وهكذا عندما تواجههم العوائق والموانع العديدة، فإنهم ينسحبون.. وفي المقابل من يصبر منهم ويستفيد في كل حادثة من سلاح الصبر القاطع، يكتسب قوة إضافة وقدرة أعلى عند مواجهة مشاكل الحياة.
ونستطيع أن نشبه الإنسان العديم الصبر بالجندي الذي ينزل إلى ساحة المعركة بدون درع واق. فمثل هذا الجندي سيسقط عند أول ضربة يوجهها له العدو. بينما الإنسان الصبور يشبه الجندي الذي يحمل درعاً يقي كل جسمه وهو يمتلك العدة اللازمة. فهذا الجندي يعد قتله أصعب بدرجات من الأول. والذي لا ينهزم في معترك الحياة هو الذي استعد لها مسبقاً، ولبس لها درع الصبر الواقعي الذي لا يقبل بالهزيمة. ومثله لن يضعف بسهولة أو يقبل المهانة، ولن ينزعج من مواجهة المصاعب والآلام التي ينبغي توقعها أثناء مسيره نحو الكمال والسعادة. وقلبه لن يسقط، وأقدامه لن تتزلزل. وبهذا البيان الواضح يمكن لنا سبر أغوار هذا الإلهام الإسلامي العميق الصادر من الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: "قد عجز من لم يعد كل بلاءِ صبراً".
وهذا ما يمكن أن نشاهده في صلابة وثبات الرجال العظام الذي صنعوا التاريخ. وعلى رأسهم الأنبياء وأهل الله الذين تحملوا منذ البداية كل ألوان العذاب وصنوف الأذى من الطغاة. ومع ذلك انتشرت دعوتهم في كل الأرجاء، وكان لها أثر كبير. ولم يكن ذلك إلا بالصبر الذي أعدوه لمواجهة تلك الموانع والعقبات فأوجد في أنفسهم روحاً لا تهزم وحوّلهم إلى أفراد يتمتعون بصلابة عالية جداً.
وكان أعداؤهم في الكثير من الموارد يتمتعون بالإمكانات الكبرى، ولكنهم تعبوا وعجزوا، حينما لم يعجزوا هم ولم ينثنوا.
كان المتوكل العباسي ـ هذا الامبراطور المتجبر ـ يقول: "لقد أتعبني ابن الرضا". فكيف استطاع الإمام الهادي (عليه السلام)، الذي قضى معظم أيام حياته تحت الضغوط التي مارسها عليه المتوكل، أن يتعب هذا الحاكم المتسلط؟!
حينما يكون أحد المتحاربين ضعيفاً بلحاظ الإمكانيات المادية ويقضي معظم أيامه في السجن والبعد عن الأمن والراحة، ولكن لا يتململ ولا يتعب أمام كل الضغوطات والشدائد، ويستمر رغم كل العوائق والموانع الموجودة على طريقه الذي يتطلب سعياً طويلاً، فمن الطبيعي أن يجعل خصمه تبعاً ومحبطاً، حتى وإن كان هذا الخصم يتمتع بكل الإمكانات المادية والقدرات، وذلك لأنه لا يمتلك روحية الإيمان بالسعي والهدف.
هذه هي الخاصية العجيبة للصبر التي تجعل الإنسان لا يقبل بالهزيمة.
بروز الخصال الحسنة
الإنسان غالباً لا يستطيع أن يقيّم نفسه قبل الامتحان والاختبار. وهو بذلك لا يعرف الكثير عن القوى الكامنة فيه. وعلى سبيل المثال، إذا كان هناك رجل قوي بطبيعته، ولكنه لا يؤدي التمارين ولا يقوم بأي نشاط، كأن يرفع حملاً ثقيلاً يختبر به قوته، فمن الطبيعي أن يجهل هذا الإنسان قواه ومميزاته الجسمانية.
إنه يقدر على اكتشاف قوته حينما يطلب منه القيام بعمل يحتاج إلى قوة. وهنا ندرك الأثر الثاني للصبر، لأنه يجعل الإنسان الصابر المقاوم في مختلف مجالات الحياة مطلعاً على موازين قوته والقدرات الإيجابية الكامنة فيه، التي لا تظهر في الحياة العادية الهادئة. هذا الأمر يدركه جيداً كل الذين ذاقوا طعم الشدائد وتعرضوا للضغوطات والمحن أثناء سيرهم نحو أهدافهم على أساس معتقداتهم الشريفة.. أمثال هؤلاء يشاهدون تلك الفتوحات والإنجازات في ذواتهم أثناء مواجهة المخاطر والصعاب، التي يظن العادي أنها لا تقاوم. وينالون من جراء ذلك القوى العظيمة والمدهشة. فهم قد اكتشفوا في أنفسهم ذلك الشيء الذي كانوا يجهلونه. فالصبر إذن يؤدي إلى أن يتعرف الإنسان على نفسه أكثر ويكتشف تلك الأمور الإيجابية التي أودعت في داخله.
التوجه والتوكل على الله أكثر
ثالث خاصية بناءة للصبر هي أن الإنسان عندما يكون في أية مرحلة من المراحل وحيداً ويصبح أقرب إلى الله ويتوكل عليه أكثر. البعض يتصور أن الاتكال على الله يتعارض ويتنافى مع الاعتماد على النفس، وأن الذي يريد أن يعتمد على الله لا ينبغي أن يعتمد على نفسه أو يثق بها. وحينما يقال: اتكلوا على الله، فإنهم يقولون لماذا تسلبون من الناس روحية الثقة والاعتماد على النفس. وكأن الذي يدعو الناس إلى التوكل على الله يقول لهم لا تعتمدوا على أنفسكم!!
أما بالنسبة للمؤمنين بالله، فإنه يرى هناك تلازماً بين التوكل على الله والاعتماد على النفس. بل ويعتبر أن الاعتماد على النفس من أبعاد الصبر، ووسيلة تؤدّي إلى التوكل والاعتماد على الله. أمّا عديم الصبر فإنّه سيتزلزل ويتفاجأ أثناء مواجهة المصائب الاختيارية بسبب عدم ثقته بنفسه وسينسى الله ويبتعد عنه أيضاً.
فالإنسان عندما يواجه شدائد ومصائب الدهر، وتحيط به الأزمات أو تطبق عليه الصعاب، فلا يجزع أو ينتحب، فسوف تنفتح عليه نوافذ الارتباط العميق بالله ويسهل عليه الاتصال بقلبه وروحه بنور حضور الله. أما إظهار العجز والضعف، فإنه سوف يبعده ويقطعه عن الله تعالى وعن نفسه.
هذه من الحقائق التي تكون التجربة والمشاهدة من أقوى الأدلة عليها وأثبتتها. وأولئك الذين استخدموا في مثل تلك الأحوال سلاح الصبر يقطعون ويذعنون بهذه الحقيقة.