مواطن الصبر
من خلال تفسير الصبر والذي اختصرناه بهذه الجملة القائلة بأنّه المقاومة لكل العلل والعوامل الموجودة للشر والفساد والانحطاط، يمكننا أن نمدد دائرة الصبر والمواطن التي تتطلب التحلي والتمسك بها. ومن الواضح في القرآن والأحاديث الشريفة أنّ الصابر المتمسك بالصبر قد وُعد بأجر عظيم في الدنيا والآخرة. ومن جهة أخرى لاشكّ بأنّ الذين يقفون مقابل حمَلة نداء الحق والعدل من الأبطال طليعة جيش الإسلام، والذين يلوثون أنفسهم في طاعة أربابهم النفعيين في ساحة هذه المعركة، والذين يحاربون دعوة الحق من أجل تحصيل المال والزاد والجاه، والذين يصدون عن الحق ويعارضونه انطلاقاً من أهوائهم، إنّ كلّ هؤلاء يشتركون مع الصّابرين على طريق الحق باسم ولفظ الصبر. هؤلاء قد يطلق عليهم لفظ الصابرين، ولكنهم بعيدون كلَّ البعد عن معنى الصبر. لأنّ كفاحهم وتحملّهم، لا يصبّ في طريق تكامل الإنسان، بل على العكس من ذلك، إنّهم لا يواجهون الأمور الباعثة على الشر والفساد والانحطاط، بل يقفون مقابل تجلّيات وإشراقات التكامل والسمو الإنساني ـ لذا فهم خارج دائرة مفهوم الصبر بالاصطلاح القرآن والروائي. لأنّ ميدان ومواطن الصبر الواقعي الحقيقي هو ميدان تكامل الإنسان.
فهناك، حيث الهدف الحقيقي لخلق الإنسان، والمقصد النهائي للإنسانية، وصيرورة المخلوق عبداً حقيقياً لله، وظهور الطاقات والاستعدادات الكامنة من خلال التحرّك والسعي، هناك يتجلى معنى الصبر وموطنه، حيث ينبغي المقاومة والثبات مقابل الدوافع والعوامل المانعة من هذا السعي والتحرّك. تلك العوامل الذاتية أو الخارجية التي تعرضنا لذكرها، والتي غالباً ما تترافق في تأثيرها وتكون مصداقاً لمكائد الشيطان. وعندما نريد أن نسلك الجادة الخطرة لأداء التكليف الشرعية، ونتعرّض للمضايقات والموانع المختلفة، كالموانع السلبية والموانع الإيجابية وغير المباشرة، كما في مثال المتسلِّق السابق، فإنَّه أثناء تسلّقه قد تكون مشاهدة المناظر الخلابة أو رفقة صاحب موسوس سبباً في إلقاء الحمل على الأرض، وتبدّل العزم على الصعود إلى الخمود والإخلاد إلى ذلك المكان الجميل. وأحياناً أخرى يكون المرض أو الانشغال بمريض أو تذكر أمور محزنة ومؤملة، باعثاً على فتور العزيمة وعدم مواصلة السير. وهذا الأخير مانع من نوع آخر وهو غير مباشر.
هذه الأنواع الثلاثة من الموانع تقف على طريق تكامل الإنسان. فإذا اعتبرنا أن الواجبات الدينية وسائل هذا المسير، والمحرمات هي حركة انحرافية فيه، وأن الحوادث المرة والمؤلمة في الحياة تؤدّي إلى عدم الاستقرار النفسي وفتور العزيمة، يمكن أن نقسّم الموانع عندئذٍ على هذا النحو:
أ ـ العوالم المانعة التي تؤدّي إلى ترك الواجبات.
ب ـ العوامل التي تدفع نحو فعل المحرمات وارتكاب الذنوب.
ج ـ والعوامل التي تجلب حالة عدم الاستقرار وعدم الثبات الروحي.
أمّا الصبر، فإنّه يعني المقاومة وعدم الاستسلام في مواجهة هذه العوامل الثلاثة، التي لاشكّ بأنّها تقف وراء الفساد والشر والسقوط. وبهذا التوضيح يمكننا أن ندرك عمق هذا الحديث الذي ينقله أمير المؤمنين (عليه السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية".
وفي كل مورد من هذه الموارد الثلاثة، عندما تحدث الأمور والحوادث المؤلمة والمرّة في الحياة، وعندما يطلب من الإنسان القيام بتكليف ما، وعندما يدعوه أمر ما إلى ارتكاب معصية ما، فعندها يأتي دور ظهور قوة وبطولة الروح.
ولكي يتضح معنى هذا المصطلح الإسلامي بشكل كامل نأتي على شرح كل واحد من هذه الأمور الثلاثة:
الصبر على أداء التكليف
أمام كل تكليف أو واجب يوجد أنواع مختلفة من المصاعب والموانع. وهذا يعود إلى طبيعة الجهد المطلوب لأداء ذلك الواجب، وإلى روحية طلب الراحة في الإنسان.
فمن الواجبات والتكاليف الفردية الشائعة كالصلاة والصوم وما هو مطلوب كمقدمة لها، إلى الواجبات المالية والإنفاقات والحج والوظائف الاجتماعية المهمة والواجبات التي تتطلب بذل النفس والنفيس وترك زخارف الحياة، كل هذه الواجبات لا تنسجم مع طبع البشر، الذي وإن كان طلباً للرقي والكمال، إلاّ أنّه محب للراحة والسهولة.
وهذا الوضع موجود بالنسبة لجميع قوانين وأنظمة العالم سواء كانت سماوية أم وضعية، صحيحة أم سقيمة.
وفي الأصل، رغم أنّ القانون لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للإنسان، وعلى هذا الأساس يقرّ به، لكنه بشكل عام لا يراه حلواً ولا يستسيغه. وحتى تلك القوانين الوضعية المتعارفة في العالم، والتي لها نتائج جلية وواضحة من الناحية الإيجابية، والكلّ يعلم عواقب مخالفتها ـ كقوانين السير ـ فإنها لا تخرج عن هذه القاعدة التي ذكرناها. ومع أنّ آلاف الحوادث الدامية والمأساوية تقع بسبب التساهل في مخالفة هذه القوانين، وعلى مرأى معظم الناس، لكننا قلما نجد سائقاً لا ينزعج من الوقوف عند الضوء الأحمر أو عندما يجد إشارة تمنعه من اختصار الطريق من خلال المرور في هذا الشارع. مثل هذا الوضع موجود بالنسبة للقوانين الآخرة أيضاً.
فالتكاليف الدينية ـ رغم أنها شُرّعت على أساس الفطرة الأصيلة للإنسان وطبق الحاجات الواقعية له، وهي وسيلة لتكامله ورقيّه ـ عندما تنزل إلى ساحة العمل تُقترن بالصعوبة والمتاعب بغض النظر عن حجمها.
الصلاة ـ مثلاً ـ التي لا تتطلب من الإنسان سوى بضع دقائق، بالإضافة إلى ترك المشاغل الضرورية أو غير الضرورية، وتحصيل المقدّمات الضرورية كاللباس والمكان.. كل هذه الأمور مخالفة للطبع والميول النفسانية. وفي أثناء الصلاة، فإنّ تحصيل حضور القلب والتوجّه إلى أفعالها وأذكارها، وطرد كل الخواطر والواردات وكل ما يشغل عن الله، وإقفال أبواب الروح على الأفكار الطارئة، هي بمثابة شروط لازمة لكمال الصلاة وتحقق آثارها. وهي لهذا عمل مليء بالمشقة يستلزم قوة ورأسمالاً كبيراً.
وإذا جئنا إلى الصوم، نجد أنه يتطلب أيضاً الامتناع عن الأكل والشرب لساعات عدة، مع مجاهدة شهوة الأكل، وعدم الاعتناء بمطالب البطن والفرج، وهذه أعمال صعبة، تحتاج إلى قوة مقاومة وتحمّل.
وعندما تتيبس الشفاه، وتعصر البطن الخالية في يوم صيفي حار، ينبغي امتلاك رأسمال كاف مع إرادة وعزم ـ وهكذا في الحجّ الذي يتضمّن عناء السفر والبعد عن الأهل والديار والالتحاق بمجموعة من الغرباء وصرف مبالغ من المال ـ كل هذه اللوازم ينبغي أن لا تترافق مع نية الرغبة بالسياحة أو التجارة. بل إنّ الهدف يكون "حج بيت الله" فقط. وهذا أمر صعب. وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
ولعلّنا لا نحتاج إلى إيضاح صعوبة ومتاعب هذه الفرائض. فالعقبات التي تقف في طريقها معلومة للجميع. إنّ إعلان كلمة الحق وإيصالها إلى أهل الباطل، والاستعداد لتحمّل كل المرارات والآلام عند مواجهة سلطان البغي الذي يشهر سيفه ويرفع سوطه، والوقوف في وجه الذئاب المفترسة التي يلمع من عيونها بريق السيوف الحادة الذي ينفذ إلى أعماق القلب، إنّ هذه المقاومة ليست بالأمر السهل سواء بالنسبة لأمّة أو فرد، بل هي من أشدّ الأعمال وأخطرها. هذا هو حال الواجبات والتكاليف الإسلامية. فهي ملازمة للمحن والمصاعب والآلام، رغم أنّها بحدّ ذاتها تتضمن المواد اللازمة والأكثر فائدة وضرورة لصلاح البشرية وسعادتها.
ولاشكّ أن الأمر سيكون بالنسبة للذين عرفوا الطريق الصحيح والمستقيم لذيذاً، لأنه في سبيل الله ونحو الهدف المقدس والسامي للإنسانية. فبالنسبة لهؤلاء تتحول كل المرارات والآلام إلى شيء عذب وقابل للتحمّل. فنفس الصلاة التي ذكرنا فيها تلك الشروط، هي لذيذة وحلوة عند أهل الله الذين تذوقوا حلاوتها واستعذبوها. لها نرى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يحين موعد الصلاة يقول لبلال المؤذن: "أرحنا يا بلال". وهكذا في الجهاد في سبيل الله، فهو عند أصحاب القلوب القوية كأمير المؤمنين (عليه السلام)، يبعث فيهم النشاط والحيوية، ويرونه طريقاً للسعادة والثبات. وفي خطبة له (عليه السلام)، في نهج البلاغة يوضح أمير المؤمنين(عليه السلام) ملامح تلك الروحية العالية والمدهشة، فيقول:
"ولقد كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ولا يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم".
بعد هذا العرض، نطرح السؤال التالي وهو: ما الذي يجب فعله لمواجهة هذه المشقات والمصاعب الموجودة عند القيام بالتكاليف الدينية؟ فهل يمكن ترك الصلاة لأنّها صعبة، أو نترك تحصيل حضور القلب ومنع الواردات والخواطر لأنّه أمر صعب! وكذلك في سائر التكاليف من جهاد وحجّ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغيرها من التكاليف الاجتماعية التي تتلازم مع التعب والمشقة، فهل يصح أن نقف مكتوفي الأيدي أمام القلب للأهواء وطلب الراحة والسهولة؟
هنا يأتي جواب الإسلام قائلاً لا يصح ذلك بل يجب الصبر، الصبر على الطاعة. ويجب علينا أن نواجه تلك الوساوس التي تظهر أثناء الصلاة وتريد أن تخرج القلب عن حالة الحضور وتنسيه أنّه قائم في محراب العبادة، وعلينا أنّ نصبر على ذلك حتى نوصل الصلاة إلى كمالها وتُحقِّق ثمرتها.
وفي مقابل الأهواء الكثيرة والقوية التي تدفع الإنسان للإفطار أثناء صيام يوم طويل وحار من شهر رمضان، علينا بالصبر والمواجهة. وعندما ندخل إلى ساحة المواجهة مع العدو الذي يكشر عن أنياب العداء يريد أن يجرعنا كأس الموت الأحمر يجب أن نسارع، ونبتعد عن كلّ ما يذكرنا بلذات الدنيا وحلاوة الحياة والأبناء والأعزاء والمشاغل المادية والمصالح الخاصّة، وكلّ ما من شأنه إحداث التزلزل وضعف الإرادة. يجب علينا أن نبعد كل هذه العوامل المانعة للاستمرار والتقدم نحو تحقيق الانتصار.
عندما نقول يجب الصبر، يعني أن لا نسمح بتسلل الخوف إلى قلوبنا من جراء تهديد ورعيد الظالم الذي يؤدي إفساده وطغيانه إلى فساد الأمّة وانحطاطها، بل علينا أن نلقي من على سطح الصبر العالي سطل فضائحه وذلته.
عندما نقول يجب الصبر، أي يجب مواجهة إغواء الشيطان الذي يظهر بألف لون ولون لمنعنا من الإنفاق والعطاء، من خلال تذكيرنا بحاجاتنا الخاصة وإشغالنا بمصالحنا وحب التكاثر وجمع الأموال، وبالتالي لمنعنا من القيام لأداء وظائفنا المالية (كالخمس والزكاة والصدقة..)، وجعل إضاءة بيوتنا أولى من إشعال شمعة في المسجد.
علينا أن نقاوم، وأن تكون مقاومتنا بكل ما ينبغي علينا القيام به. ففي ساحة القتال يجب الصمود والثبات، وفي ميدان جهاد النفس ينبغي الاستقامة، وفي محل آخر يجب عدم الاعتناء بالفقر ووساوسه. هذه المقاومة هي الصبر. فالصبر ليس الاستسلام وتكبيل الأيدي وأسرها بالأحداث اليومية والغفلة عما يجري.