موقع الصبر وأهميته في الروايات
عند الرجوع إلى بعض الأحاديث التي تدور حول الصبر نجدها تحكي وتدل على أهمية الصبر في الإسلام والشرائع الإلهية كافة، حيث يمكننا أن نلخص التعبير عن هذه الأهمية بهذه الجملة وهي أنه كان وصية جميع الأنبياء والأولياء والقادة الحقيقيين لأتباعهم وخلفائهم وكل من يسير على دربهم.
إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الأب الرحيم والمعلم الشفيق الذي أمضى عمره في السعي والجهاد متحملاً لكل الآلام في سبيل تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، نرى أنّه في اللحظة التي يودع فيها هذه الحياة الدنيا، وعندما تصبح يده عاجزة عن متابعة العمل والسعي وبذل الجهد للوصول إلى الهدف الذي صرف عمره من أجله، فإنه يعهد إلى وارثه لأجل المضي به وإكمال المسير نحوه ويوصيه بما يمكّنه من بلوغ ذلك المقصد الأسمى.
فما هي هذه الوصية الأخيرة الذي ينطق بها إلى وارثه الذي أوكل إليه أمر هذه المهمة الخطرة؟
إنه لن يقول له إلا ما هو عصارة تجاربه كافة، وسيقدم له ثمرة سعيه العلمي والعملي، ساعياً لتبيين ذلك في جملة تختصر المطلوب، ضمن وصية تختزن بداخلها كل المعارف والإدراكات القيّمة لتتحول إلى هاد ومرشد دائم لذلك التلميذ الوارث، وكأن النقطة النهائية في حياة الأول تصبح نقطة بداية تكامل وارتقاء للتالي.
بعد هذه المقدمة نرى أن آخر وصية للأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين وبناة المجتمع الإلهي السامي وآخر هدية فكرية قدموها لخلفائهم هي الوصية بالصبر.
وننتقل الآن إلى محطة نتوقف فيها عند حديثين مرويين عن أهل البيت (عليهم السلام) في موضع الصبر. الحديث الأول عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): "لمّا حضرت الوفاة أبي علياً بن الحسين ضمّني إلى صدره وقال: "يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ـ وبما ذكر أنّ أباه أوصاه ـ يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً"(1).
وفيما يتعلق براوي الحديث فهو أبو حمزة الثمالي من خواص الأتباع الخلّص لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان من العناصر الأساسية في جبهة الدفاع عن التشيع. لذا ما نقله عن الإمام الباقر (عليه السلام) صحيح معتبر.
لقد خلَفَ الإمام الباقر (عليه السلام) أباه الإمام السجاد (عليه السلام) حاملاً أمانة الحفاظ على ميراثه ومتابعة طريقه ومشروعه. وكان وجوده (عليه السلام) استمراراً لوجود أبيه (عليه السلام) الذي كان بدوره استمراراً لوجود الإمام الحسين بن علي (عليه السلام). فكل واحد من أفراد سلسلة الإمامة كان يمثّل استمرار مشروع السابق له، وكانوا جميعاً استمراراً لوجود النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). لقد كانوا جميعاً نوراً واحداً ونهجاً واحداً يرمون تحقيق هدف واحد.
وإذا عدنا إلى الحديث نجد من عبارة "يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة" أن المشار إليه هو الإمام الحسين (عليه السلام) الذي نعلم جميعاً أين كان وبأية حالة، حين حضرته الوفاة.
ففي تلك الأجواء الشديدة ليوم عاشوراء ووسط بحر الآلام والمصائب وفي هذه الظروف الدموية التي خيمت على كربلاء، والأعداء يحاصرون معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، نجده يستفيد من فرصة صغيرة قبل أن يحمل حملته الأخيرة على معسكر الأعداء، فيرجع من ساحة القتال إلى معسكره ويعقد لقاءاً قصيراً مع أفراد أسرته الذي من المفترض أن يواصلوا ثورته ويتابعوا نهضته، ويتحدث من ولده وخليفته علي بن الحسين (عليه السلام)لمدة قصيرة، لكنّها مهمة جداً ومليئة بالفائدة، وهذا ما يُعبّر الناس عنه بالوداع الأخير. والإمام ـ كما ينبغي أن نعلم ـ معصوم لا يقع تحت تأثير العواطف إلى درجة أن يضيّع هذه الفرصة الأخيرة من حياته بكلام غير مهم مقتصراً في وصيته على المسائل الشخصية أو العاطفية. فهذا لا ينسجم مع الوصايا التي وردتنا من الأئمة العظام (عليه السلام) ولا يشبهها!!
والإمام المعصوم (عليه السلام) يعلم أنّ في هذه الساعات الحساسة الباقية من عمره، ينبغي أن يودع هذه الأمانة التي سعى جاهداً من بداية إمامته لحفظها، متحملاً كلّ الآلام والمصائب العظمى، كما فعل مؤسس الثورة الإسلامية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) من قبله. ولهذا، عليه أن يعهد بهذا الحمل إلى شخص يأتي من بعده ذي قوة متين ثابت القدم ليخلفه. فنراه يأتي إليه ليوصيه بأهم وصية، تساعده على حمل وحفظ هذه الأمانة. ماذا كانت تلك الوصية المهمة والنفيسة؟!
نجد الإمام علياً بن الحسين (عليه السلام) ـ الذي، وإن لم تكن حالة شهادته كشهادة أبيه الحسين (عليه السلام)، إلاّ أنّه كان يعيش في ظروف مشابهة ـ يكشف النقاب عن تلك الوصية التي أوصاه بها أبوه (عليه السلام) ويعيدها على مسامع ولده الإمام الباقر (عليه السلام) كوصية أخيرة له. ويذكر ضمن ذلك أن هذه الوصية قد نقلها أبوه (عليه السلام) عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). هذه الوصية التي انتقلت عبر السلسلة الطاهرة للإمامة، وكان كلّ إمام يوصي بها الإمام الذي بعده، هي الصبر: "يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً".
إنها تطلب منه أن لا يتردد أثناء سلوك طريق الحق، ولا يعير اهتماماً للموانع والعقبات. وإذا تم تشخيص العمل المطلوب في هذا الطريق فلا يرفع يده عنه، طالبة منه التحمّل والاستمرار.. ومن الواضح في ساحة المواجهة بين الحق والباطل أنّه لا وجود للراحة واللذة والعيش الهنيء، وإنّما المحن والبلاءات والمصاعب "وإن كان مُرّاً". هذه هي الوصية التي انتقلت من إمام إلى آخر. وشاهدنا كيف كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون بها ثابتين عليها حتى آخر لحظات حياتهم، متقبّلين لكلّ العواقب التي تحملها إليهم، وكانوا حقاً مصداقاً بارزاً لهذا البيت الشعري الجميل:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمرّ من الصبر
وإذ تبيّن لنا من كلّ ما ذكرناه في الحديث الأول، أهمّية الصبر وموقعه في التعاليم الإلهية كجوهر نفيس وميراث غال طبّقه الأئمة (عليه السلام) طوال حياتهم، ننتقل إلى الحديث الثاني المروري عن أهل البيت (عليهم السلام) وقد ورد في كتاب فقه الرضا (عليه السلام) هكذا: "نروي أنّ في وصايا الأنبياء صلوات الله عليهم اصبروا على الحق وإن كان مّراً".
وهنا يبدأ الإمام حديثه بقوله "نروي"، وهذا يدل على أنّه ميراث نُقل لأهل البيت (عليهم السلام)، وهم قد سمعوه من آبائهم وأسلافهم، وهم ينقلونه بدورهم ويوصون به غيرهم. وجملة "أنّ في وصايا الأنبياء" تعني أنّ وصية الأنبياء (عليهم السلام) لورثتهم وأتباعهم وحملة أمانتهم وإلى تلاميذ مدرسة الوحي هو هذا الدرس: "اصبروا على الحق وإن كان مُرّاً". وهي عين الجملة التي نقلها أتباع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) دون زيادة أو نقصان. ولعل هذه الجملة هي أقصر ما دل على أهمية الصبر، وفي نفس الوقت لها مغزى ودلالة كبيرة تفوق غيرها.
وبعد هذا الاستعراض لأهمّية الصبر، ننتقل للتعرّف إلى موقع هذه الخصلة النفسية ودورها داخل مجموع المعارف الدينية بحيث إنها استحوذت على هذا القدر من الاهتمام عند أولياء هذا الدين وأئمته.