- ماما ..حتى النجمات تسهر؟
- هي من يسهر
النجمة الساهرة سمعتْ سؤال الصغير ولمحت النوم الذي يثقل جفنَي أمه .. رقّت لحالهما وأخذها الفضول لتعرف سبب سُهادِهِ وما يشغل باله .
نزول النجمة إلى الأرض سيكون حدثا فارقا لكنها لم تُردْ لأحد أن يعرف .. لذا تسللت قبيل الفجر نحو الأرض بعدما ارتدت عباءة الفيروز لتحجب ذيل فستانها الطويل الساطع ..
النجمة الساهرة اقتربت من الصغير وأمه اللذين يفترشان عتبة دكان له مظلة تنحني على بابه، يتوسّد الصغير ذراع أمه وهي تضمه إلى حضنها بقوة مَن تتمنى إرجاعه في جوفها ، هي مغمضة العينين مفتوحة الأذنين تؤنسه بصوت خافت بين الفينة والفينة ، هو صامت يقلب عينيه في السماء . تأملت النجمة صورتهما .. ثم بحثتْ عن الأب .. عن الخبز .. عن البيت والغطاء .. وشدت بأصابعها عباءتها وفكرت قليلا وهي تقضم شفتيها .. ثم خلعتها وغطتهما بها .. الصبي نام .. والأم نامت .. والفجر لمّا يفيق .
أرادت القفز إلى السماء لتُعدَّ سلةً من تفاح الفردوس تفاجئهما بها عند الصباح .. لكنها شعرت بالثقل .. فاضطجعتْ بجوارهما وغابت في عالم الحلم .
وكانت نجمتان صغيرتان ضئيلتا الضوء قد شاهدتاها تخطف عباءة الفيروز من مِشجَب الآلهة .. ومارستا عملهما كما يجب نمّاً ووشاية .
حينما استيقظتْ لم تجد طفلا ساهرا ولا أما وسنى ولا عباءة فيروز ، كل ما أحاطها هو الضجيج والوجوه المكفهرة والشتائم العابرة .. والأقدام تتخطاها وهي مستلقية وسط الطريق كبلهاء ..
والسماء الملبدة أغلقت أبوابها في وجه هاربةٍ قادها قلبها الرفيق إلى أحلك زوايا الكون ظلمةً .!
فاتخذت مكانا قصياً وراحت تغني :
في غنيه بعيد منسيه
بغنيها
بوعيها
ع دروب ورديه
لما بيهدا الليل والنجمات بتطل ع التلات
بتموج طرقات الضو مروج
حد الورد المنسوج
بالحب غنيات
انقشعتْ الغيوم .. وابتسمت الشمس ومسحت بأصابعها خدَّ النجمة المسافرة .. فاستعدّت الأخيرة للعروج .. لكن كيد الآلهة قرر ولفرط ما أحبوا غناءها في استغلال الموقف .. وادعوا أنهم لم يرضَوا كفايةً بعد .. ليستمتعوا بالمزيد ..
النجمة استوطنت الأرض ، وعاشت مع أهلها ، تصحو فتشرق الشمس ، تنفض فراشها فتتناثر أتعاب الأمس عن ظهور الناس ، تحدد أشفار عينيها بالكحل فيتبيّن الناسُ طرائقهم ..
تغني لهم وللآلهة كل صباح فتبتسم شفاههم ..
ولما جاء زمن أجدبت فيه الأرض احتجاجا على مياعة الغيم ، حيث ادعتْ أنه يفضّل البحر عليها قائلة : فليسافر إلى صديقه البحر ويقضي عمره كله معه .. لست بحاجة إليه !
ولما ضاقت الشمس بتمنع الأرض وصارت تقضي وقتا طويلا خلف أسوار الغيم - تحاول عبثاً إقناعه بأن خيرهما من يبدأ بالسلام – وإثر غيابها الطويل بَرَد الناس .
لم تنبت الأرض تلك السنة قمحا ولا ذرة .. وجاع الناس ..
والجبال - أقرب أصدقاء الغيم - اكتأبتْ .. وكادت تتضعضع أكتافها العالية .. وابيضّت رؤوسها حسرة .. وخاف الناس .
ورغم كل ذلك .. ما زالت فيروز تغني .. فينسى الناس كل الألم والجوع والضياع والمصير المعلق .. وتنفتح طاقات الأمل في أرواحهم ..
الطفل الذي كان عارياً كبُر .. وجاء بالعباءة إلى فيروز .. قال بخجل : خذيها واعذريني
- لا تثريب عليك .. أبقها عندك إن لم تجد بعدُ ما يقيك البرد
- بل تأخذينها أنتِ وتسافرين إلى الآلهة هنالك بين النجوم .. لتحلّي قضية الأرض المجدبة التي لا تريد قطع اعتصامها ..
صعدتْ إلى السماء وهي تغني :
يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا
بتموج مثل العيد وهمك متعبنا
بعد بعض العتب والدلال والتبرير أفشت الغيوم حبها للأرض وبلل دمع الفرح والشوق مآقيها .
الآلهة عرضَتْ على النجمة البقاء في الأعلى .. لكن النجمة سألت :
هل ينام أحدكم جائعا؟
فأجابوا : لا
- هل تشعرون بالبرد في الوقت الذي يمكنكم فيه تدفئة قرية؟
- لا
- هل يهجركم من تحبون؟ وتبيتون تتسلى بكم الأسئلة والسهاد ؟
- لا
- هل تنكسف شمسكم فجأة لأنها التقت بحبيبها القمر فتنساكم؟ أو تعتدل أرضكم في جلستها بين فينة وأخرى غير عابئة بكم فتتزلزلون؟
- لا
- هل فيكم من يحمل على ظهره أحلاما ثقيلة لا يجد وطنا يودعها فيه لئلا تضيع؟
- لا
- هل بينكم من اعتاد البحث عن خيبات الآخرين ليضيفها إلى خيباته الشخصية كل صباح مطبوعة في ورق قذر أو مذاعة عبر أثير مختطَف؟
- لا
- هنالك على الأرض كل هؤلاء .. ألقي عليهم تعاويذي فيُسبلون أعينهم ويرتشفون السعادة لبرهة ..
ودّعتْ الآلهة وهبطت إلى الأرض وهي تغني :
مالي سألت الزهر عن منزلي
فقيل لي هناك خلف القمر ؟!!