الشاعر جمال الدين ابن الجزار المصري
هو ابو الحسين جمال الدين يحى بن عبد العظيم الجزار المصري، المعروف بالجزار . هو أحد الشعراء في عصر
المماليك .
ولد بمدينة(الفسطاط ) بمصر سنة 601هجرية / 1205 ميلادية وفي رواية اخرى ولد سنة \603 هجرية -1207 ميلادية ونشأ فيها،
عمل جزارا مع أبيه وأقاربه و بدت عليه منذ الصغر علامات الميل الى الشعر وشغفه به وبدت عليه دلائل قرض الشعر وميوله الفطرية اليه فاحب العلوم الادبية واللغوية وقد دفعه شغفه بالأدب إلى التعلق به، وأول ما عرف عنه وهو صغير، أنه نظم أبياتاً قلائل، فأخذه أبوه وتوجه به إلى الشاعر ابن أبي الإصبع وقال له:
يا سيدي، هذا الولد قد نظم شعراً واشتهى أن يعرضه عليك. فقال له: قل.
فلما أنشده من شعره
فقال له: أحسنت، والله إنك عوّام مليح.
وأراد الوالد أن يعبر عن شكره لابن أبي الإصبع، فصنع طعاماً وحمله إليه. ولكن ابن أبي الإصبع كان قد طابت له (التورية) التي كانت اكبر هم أدباء ذلك الزمان، فقال له:
لأي شيء فعلت؟
فقال: لثنائك على ولدي.
فقال: أنا ما أثنيت عليه.
فقال: ألم تقل إنك عوام مليح؟
فقال: ما أردت بذلك إلا أنه انتقل من بحر إلى بحر
دأب الجزار على قرض الشعر،فاخذ يضرب في بحوره ويغوص على غرائب المعاني، ويكسوها أفضل الألفاظ، حتى استبان طريقه وتوضحت له الامور فكان يتطلع إلى حياة أخرى يتمتع فيها بلذات العيش غير حياة الجزارة التي يشقى فيها على غير طائل يقول :
أصبحتُ لحاماً وفي البيت لا
أعرفُ ما رائحة اللحم
واعتضت من فقري ومن فاقتي
عن التذاذ الطعم بالشحم
جهلته فقراً فكنت الذي
أضلهُ اللهُ على علم
ثم ان ابو الحسين الجزار قد ترك مهنة ابيه وأقاربه، وتكسب بالشعر،وساعده على السير فى هذا المجال اتصاله بالحكام والوزراء والامراء والكتاب، فأخذ يمدحهم ويأخذ من عطاياهم وقد ودع حرفة الجزارة تماما فقال :
حسبى حرافا بحرفتى حسبى أصبحت منها معذب القلب
موسخ الثوب والصحيفة من مطول اكتسابي ذنبا بلاكسب
اعمل في اللحم للعشاء ولا منه العشاء .. فما ذنبي
خلا فؤادي ولي فم وسخ كانني في جزارتي كلبي
ولما اشتد ساعده بقول الشعر قصد شعرالمدائح، فانتجع القصور، وأنشد ساكنيها، الا انه لم يغفل –في مدحه لهم - وصف حاله وما يعانيه من الحرمان، ثم اتصل بالملوك والامراء لمدحهم فمدح الملك الناصر بعدة قصائد وفي آخر قصيدة مدح بها الملك الناصر في يوم النحر قال فيها :
كيف يبقى الجزار في يوم عيد الن
حر دهر الإفلاس والعيد عيده
يتمنى لحم الأضاحي وعند النا
س منه طريه وقديده
ولقد آن من لقائك أَن تبـ
يض أيامه ويخضر عوده
أتصل بالملك الكامل وبعده بالملك العادل ومدحهما كما مدح غيرهما من الحكام والأعيان. وأكثر من التنقل بين أقاليم القطرالمصري من الإسكندرية إلى أقصى الصعيد، يقصد الامراء والقادة والمترفين ليمدحهم، ويصف النيل وأسفاره فيه وما يلاقي من العناء والتعب فيقدم ذلك في مطالع قصائده ،و قال من قصيدة في مدح ناظر الإسكندرية يصف رحلته في النيل:
لا تسلني عما لقيت من البيـ ن فحال الغريب حال ذميم
كنت في ككة تطير بقلع وهي طوراً على المنايا تحوم
أنظر الموج حولها فإخال الـ جيم تاءً لخيفتي وهي جيم
لم أجد لي فيها صديقاً حميماً غير أني بالماء فيها حميم
شنقوا قلعها مراراً على الريـ ح ولا شكَّ أنه مظلوم
وإذا ما دنت إلى البر أمسى عندنار منهُ مقعدٌ ومقيم
يسجدُ الجرف كلما ركع المو ج فدأبي هنالك التسليم
وقبيحٌ علىَّ أن أشتكي براً وبحراً وأنت برٌّ رحيم
ونظرا لكثرة الهدايا والهبات التي انثالت عليه من الملوك والامراء فقد تغيرت حاله وتحسنت اموره فاخذ بالاسراف والبذخ حتى لم يبق من ثروته شيئ وأصبح فى ضيق من الحال والمال، فكانت سوق الشعر لمثله غير مربحة ولا تسد تكالف معيشته ، مما جعله تحت عادة كرمه المفتوحة على مصراعيها ينشد معبرا:
لا تسلنى عن الزمان فانى
قد بدت لىّ اضغانه وحقوده
زمن لان عطفه عند غيرى
وهو عندى صعب المراس شديده
كيف يبقى الجزار فى يوم عيد
النحر رهن الافلاس والعيد عيده
يتمنى لحم الأضاحى وعند
الناس منه طريه وقديده...!!
ويقول فيه صاحب كتاب (المنهل الصافي) :
( بديع النظم، عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)
وإذا أردنا أن ننتقل إلى الميدان الذي كان يركض فيه مجلياً فإننا نضم تلك الأبيات إلى شعر كثير آخر قاله في التعبير عن مشاعره وتصوير ما يحيط به، ولست أدري أكان من حسن الحظ أم من
الا انه اتلف كل ماحصل عليه و ما كان يظفر به من صلات الملوك الأيوبيين التي لم يبق تبذيره على شيء منها لما عانى من كساد مدحه وجفاف أيدي الممدوحين وما عاناه جعل يندب حظه الذي ضاع بين الشعر والجزارة فقال:
واللحم يقبح أن أعو - د لبيعه والشعر بائر
يا ليتني لا كنت جزَّا - راً ولا أصبحت شاعر
ثم تغيرت به الحال حتى وجد ان مهنة الأدب وقول الشعر لم تسعف سداد نفقاته الكثيرة فبدأ يفكر في العودة الى الجزارة من جديد، عساه أن يجد فيها بحبوحة من العيش، و لعله يسد فيها معيشته وقد ذكر ذلك في شعره اذ يخاطب احد لائميه اسمه شرف الدين على العودة الى الجزارة . فقال :
لا تلمنى ياسيد شرف الدين اذا ما رأيتنى قصابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشت حفاظا وأرفض الاّدابا
وبها أضحت الكلاب ترجينى وبالشعر كنت أرجو الكلابا
لم يكن في عصره من يقاربه في جودة النظم غير السراج الوراق، و كان فارس تلك الحلبة ومنه أخذوا وعلى نمطه نسجوا ومن مادته استمدوا. وبينه وبين شعراء عصره مجاراة ومباراة يقول :
قطعتُ شبيبتي وأضعتُ عمري
وقد أتعبتُ في الهذَيان فكـري
وما لي أجـرةٌ فيـه ولا لـي
لـيإذا ما تبتُ يوماً بعـض أجـرِ
قرأت النحـوَ تبيانـاً وفهمـاً
إلى أن كعْتُ منه وضاق صدري
فما استنبطتُ منه سوى محـالٍ
يُحال به على (زيد وعمـرو )
قال صاحب نسمة السحر :
(وكان من اهل مصر وله الشعر الجيد والنكت الدالة على خفة روحه ، وله مع سراج الدين عمر الوراق لطايف شعرية وكانا كنفس واحدة وشعرهما متشابه الا انه محكم.)
ويقول فيه صاحب كتاب (المنهل الصافي) :
( بديع النظم، عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)
توفي ابن الجزار في الثامن عشر من شوال سنة\ 679هجرية - مُصابًا بالفالج، وله من العمر ٧٦ سنة أو نحو ذلك ودفن بالقرافة في بمصر.
ابن الجزار شاعر مجيد بالفطرة غلبت عى شعره صيغ الشكوى وعدم الرضى فى زمن لاتنفع فيه حرفة الجزارة ولامهنة الأدب حيث بقي يعيش الحيرة بين هذه وتلك يقول :
أصبحت فى امرى ولا
أشكو لغير الله حائر
ولكم يذكرنى الشتاء
بأمره ولكم أكاسر
واللحم يقبح اأن أعود
لبيعه والشعر بائر
ياليتنى لاكنت جزارا
ولاأصبحت شاعر...!!
يتميز شعره بانه بديع المعاني جيد التورية عذب التركيب فصيح الألفاظ حلو النادرة، وكان صاحب مجون وزوايد، يمدح الملوك والامراء والتجار، وكان يتزيّا بزي الكتّاب، عاش مرتزقا بالشعر ولم يكن في عصره من يقاربه في جودة النظم غير السراج الوراق، فكان فارس تلك الحلبة في ذلك الزمن ومنه أخذوا وعلى نمطه نسجوا ومن مادته استمدوا. وكان بينه وبين شعراء عصره مجاراة ومباراة.
انشد الشعر بكل فنونه واغراضه وان غلب على شعره الشكوى وقد برع في استعراض شعر الشعراء القدامى وتصفيحه على صفحته ولم تكن هذه الحالة تعرف من قبل . فهو ما يسميه (شعر التحامق ) ومنه هذه الابيات على نسق معلقة امرئ القيس يقول :
قفا نبك من ذكرى قميص وسروال
ودراعة لىّ عفا رسمها البالى
وماأنا من يبكى اسماء ان تأت
ولكننى ابكى على فقد اسمالى
ولو ان امرأ القيس رأى الذى
أكابده من فرط همى وبلبالى
لما مال نحو الخدر خدر عنيزة
ولابات الا وهو عن حبها سالى
ولى من هوى سكنى القياسر عن هوى
بتوضح فالمقراة أعظم اشغالى
ولاسيما والبرد وافى بريده
وحالى على مااعتدت من عسره حالى
ترى هل يرانى الناس فى فرجية
اجر بها تيها"على الأرض أذيالى
ويمسى عدوى غير خال من الأسى
اذا بات من امثالها بيته خالى
ولو أننى اسعى لتفصيل جبة
كفانى ولم اطلب قليلا" من المال
ولكننى أسعى لمجد بجوخة
وقد يدرك المجد المؤثل امثالى
وقد قال الشعر في الغزل :
ومن قوله في الغزل :
بذاك الفتور وهذا الهيف
يهون على عاشقيك التلف
أطرت القلوب بهذا الجمال
واوقعتها في الأسى والأسف
تكلّف بدر الدجى إذ حكى
محياك لو لم يشنه الكلف
وقام بعذري فيك العذار
واجرى دموعيَ لمّا وقف
وكم عاذل أنكر الوجد فيك
عليّ فلما رءاك اعترف
وقالوا : به صلف زائدٌ
فقلت : رضيت بذاك الصلَف
لئن ضاع عمري في مَن سواك
غراماً فإن عليك الخلف
فهاك يدي إنني تائب
فقل لي : عفى الله عما سلف
بجوهر ثغرك ماء الحياة
فماذا يضرّك لو يُرتشف
ولم أرَ من قبله جوهراً
من البهرمان عليه صدف
أكاتم وجديَ حتى أراك
فيعرف بالحال لا مَن عرف
وهيهات يخفى غرامي عليك
بطرف همى وبقلب رجف
وكانت بينه وبين السراج الوراق مداعبة فحصل للسراج رمد فاهدى الجزار له تفاحاً وكمثرى وكتب مع هديته هذه الابيات :.
أكافيك عن بعض الذي قد فعلته
لأنّ لمولانا عليّ حقوقا
بعثت خدوداً مع نهود وأعينا
ولا غرو ان يجزي الصديق صديقا
وان حال منك البعض عما عهدته
فما حال يوم عن ولاك وثوقا
بنفسج تلك العين صار شقائقاً
ولؤلؤ ذاك الدمع عاد عقيقا
وكم عاشق يشكو انقطاعك عندما
قطعت على اللذات منه طريقا
فلا عدمتك العاشقون فطالما
اقمت لأوقات المسرّة سوقا
كما تميز شعره بالتهكم والسخرية المضحكة فعندما تزوج ابوه من امرأة مسنة قال :
تزوج الشيخ أبى شيخه
ليس لها عقل ولاذهن
لو برزت صورتها فى الدجى
ماجسرت تبصرها الجن
كأنها فى فرشها رمة
وشعرها من حولها قطن
وقائل قال ماسنها
فقلت مافى فمها سن
ووصف داره التي يسكنها فقال:
ودار خراب بها نزلت
ولكنى نزلت الى السابعة
طريق من الطرق مسلوكة
محجتها للورى شاسعة
فلافرق مابين انى اكون
بها أو أكون على القارعة
تساررها هفوات النسيم
فتصغى بلا أذن سامعة
وأخشى بها أن أقيم الصلاة
فتسجد حيطانها الراكعة
اذا ما قرأت اذا زلزلت
خشيت بأن تقرأ الواقعة..!!
وقالوهو يصف حالة حماره:
لم أدر عيبا" فبه الا أنه
مع ذا الذكاء بقال عنه حمار
ويلين فى وقت المضيق ويلتوى
فكأنما بيديك منه سوار
ولقد تحامته الكلاب وأحجمت
عنه وفيه كل ماتختار
فرعت لصاحبه عهودا" قد مضت
لما علمن أنه جزار....
واختم بحثي بهذه القصيدة من شعره :
حكم العيون على القلوب يجوز
ودواؤها من دائهن عزيز
كم نظرة نالت بطرف فاتر
ما لم ينَله الذابل المحزوز
فحذار من تلك اللواحظ غرّة
فالسحر بين جفونها مركوز
يا ليت شعري والأماني ضلّة
والدهر يدرك طرفه ويجوز
هل لي روض تصرّم عمره
سبب فيرجع ما مضى فأفوز
وأزور من ألِفَ البعاد وحبّه
بين الجوانح والحشا مرزوز
ظبيٌ تناسب في الملاحة شخصه
فالوصف حين يطول فيه وجيز
والبدر والشمس المنيرة دونه
في الوصف حين يحرّر لتمييز
لولا تثنى خصره في ردفه
ما خلت إلا أنّه مغروز
تجفو غلالته عليه لطافة
فبحسنها من جسمه تطريز
مَن لي بدهرٍ كان لي بوصاله
سمحاً ووعدي عنده منجوز
والعيش مخضّر الجناب أنيقه
ولأوجه اللذات فيه بروز
والروض في حلل النبات كأنه
فرشت عليه دبابج وخزوز
والماء يبدو في الخليج كأنه
ظل لسرعة سيره محفوز
والزهر يوهم ناظريه إنما
ظهرت به فوق الرياض كنوز
فأقاحه ورق ومنثور الندى
درّ ونور بهاره ابريز
والغصن فيه تغازل وتمايل
وتشاغل وتراسل ورموز
وكأنما القمري ينشد مصرعاً
من كل بيت والحمام يجيز
وكأنما الدولاب زمر كلّما
غنّت وأصواب الدوالب شيز
وكأنما الماء المصفّق ضاحك
مستبشر ممّا أتى فيروز
يهنيك يا صهر النبي محمّد
يوم به للطيبين هزيز
أنت المقدّم في الخلافة مالها
عن نحو ما بك في الورى تبريز
صبّ الغدير على الألى جحدوا لظى
يوعى لها قبل القيام أزيز
إن يهمزوا في قول أحمد أنت مو
لى للورى؟ فالهامز المهموز
لم يخش مولاك الجحيم فانّها
عنه إلى غير الوليّ تجوز
أترى تمرّ به وحبّك دونه
عوذٌ ممانعة له وحروز
أنت القسيم غداً فلهذا يلتظي
فيها وهذا في الجنان يفوز