كتاب ونقاد ( ابن المقفَّع )
ابن المقفَّع
(هـ ـ 146هـ)
هو عبد اللّه بن المقفع الكاتب المشهور كان فارسي الأصل ترجم كتاب كليلة ودمنة إلى العربية عن الفارسية بأبلغ عبارة وكان مجوسيا ثم أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح العباسي ثم صار كاتبا له واختص به.
من كلامه: شربت الخطب رياء ولم أضبط لها روياً، ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاماً، وليست غيرها كلاماً.
قال الهيثم بن عدي جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال له قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس فإذا كان الغد فاحضر.
ثم حضر طعام عيسى عشية فجعل ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس (الزمزمة تراطن العلوج على أكلهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا شفة ولكنه صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض).
فقال له أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟.
فقال كرهت أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده.
كان ابن المقفع يتهم بالزندقة (الزندقة عدم التدين) فحكى الجاحظ أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيـى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. قال بعضهم كيف نسي الجاحظ نفسه.
وقال الأصمعي: قيل لابن المقفع من أدبك؟ قال نفسي، إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته.
واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد صاحب العروض فلما افترقا قيل للخليل كيف رأيته؟ قال الخليل علمه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل؟ فقال عقله أكثر من علمه.
قال الأصمعي: صنف ابن المقفع كثيرا من المصنفات الحسان، منها الدرة اليتيمة التي لم يصنف في فنها مثلها.
هذا وكان ابن المقفع يعبث بسفيان بن معاوية بن يزيد بن الملهب بن أبي صفرة أمير البصرة وينال من عرضه وكثر ذلك منه. وذكر الهيثم بن عدي أنه كان يستخف بسفيان كثيرا وكان أنف سفيان كبيرا فكان إذا دخل عليه قال السلام عليكما يعني نفسه وأنفه.
وقال له يوما ما تقول في شخص مات وخلف زوجا وزوجة يسخر به.
وقال سفيان يوما ما ندمت على سكوت قط. فقال ابن المقفع الخرس زين لك فكيف تندم عليه؟ فكان سفيان هذا شديد الحنق عليه يترقب فرصة لقتله وكان عبد اللّه بن علي العباس قد خرج على ابن أخيه المنصور فأرسل إليه المنصور جيشا مقدمه أبو مسلم الخراساني فانتصر عليه وهرب عبد اللّه بن علي إلى أخويه سليمان وعيسى فاستتر عندهما فتوسطا له عند المنصور فقبل شفاعتهما فيه واتفقوا على أن يكتب له أمانا. فلما أتيا البصرة قالا لعبد اللّه بن المقفع أكتب أنت وبالغ في التأكيد كيلا يقتله المنصور فكتب ابن المقفع الأمان وشدد فيه حتى قال في جملة فصوله: (ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد اللّه بن علي فنساؤه طوالق ودوابه حُبُس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته) وكان ابن المقفع يتنوع في الشروط. فلما وقف عليها المنصور عظم ذلك عليه، وقال من كتب هذا؟ فقالوا رجل يقال له عبد اللّه بن المقفع يكتب لأعمامك. فكتب إلى سفيان متولي البصرة المقدم ذكره يأمره بقتله، وكان صدر سفيان موغرا منه فقتله شر قتلة.
واختلفت الروايات في كيفية قتله، فقيل إنه أمر بتنور فسجر ثم أمر به فقطعت أطرافه عضوا عضوا وهو يلقيها في التنور وهو ينظر حتى أتى على جميع جسده. وقيل ألقاه في بئر المخرج وردم عليه الحجارة، وقيل بل أدخله حماما وأغلق عليه الباب فاختنق.
وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل إنه دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضراه إليه مقيدا وحضر الشهود الذين شهدوا فأقاموا الشهادة عند المنصور.
فقال لهم المنصور أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبكم ما ترونني فاعلاً بكم أفأقتلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره وعلموا أن قتله كان يرضي المنصور. ويقال إنه عاش ستا وثلاثين سنة وكان قتله سنة (146) هـ.
ولابن المقفع شعر منه يرثي يحيـى بن زياد الحارثي أو عبد الكريم بن أبي العوجاء:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله فللّه ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
فقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزع
ومن نثره ما كتبه في مقدمة (الدرة اليتيمة) قال:
«وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجسادا، وأوفر مع أجسادهم أحلاما، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم للأمور اتقانا، وأطول أعمارا وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارا. فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علما وعملا من صاحب الدين منا. وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل. ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا به مؤونة التجارب والفطن. وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبلد غير مأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل وكراهية لأن يسقط ذلك من بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال والعُقد (هو جمع عقدة وهي العقار الذي اعتقده صاحبه ملكا) إرادة أن لا تكون عليهم مؤونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا. فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدى بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث لمحدثنا أن ينظر في كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع. غير أن الذي نجده في كتبهم هو المنتخل من آرائهم والمنتقى من أحاديثهم، ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ في صفة له مثالا لم يسبقوه إليه لا في تعظيم اللّه عز وجل وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامه وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها، ولا في وجوه الأدب وضروب الأخلاق فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، وممن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس».
«يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول فإن كثيرا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول فلا يكون دركهم دركا. ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل».
فأصل الأمر في الدين أن نعتقد الإيمان على الصواب ونجتنب الكبائر ونؤدي الفريضة فألزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حرمه هلك. ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل.
وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألاّ تحمل عليه من المآكل والمشارب والباء إلا خفافا، وإن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضاره والانتفاع بذلك فهو أفضل.
ومن كلامه في كتاب اليتيمة أيضا:
«ما الدين خصومة، ولو كان خصومة لكان موكولا إلى الناس يثبتونه بآرائهم وظنهم، وكل موكول إلى الناس رهينة ضياع، وما ينقم على أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأيا وليس الرأي ثقة ولا حتما، ولا يجاوز الرأي منزلة الشك والظن إلا قريبا، ولم يبلغ أن يكون يقينا ولا ثبتا، ولستم سامعين أحدا يقول لأمر قد استيقنه وعلمه أرى أنه كذا وكذا. فلا أجد أحدا أشد استخفافا بدينه ممن اتخذ رأيه ورأي الرجال ديناً مفروضاً» انتهى.
هذا مثال من كلامه وهو من أحسن النثر وأبعده عن التكلف وقد شهر به ابن المقفع شهرة فائقة.