أبو العلاء المعري
أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبد اللّه بن سليمان التنوخي من أهل معرة النعمان في سوريا.
حكيم الشعراء وشاعر الحكماء، لم ينبغ في الإسلام شاعر أعلى منه همة ولا أكرم منه نفسا، وأجدر بنا أن نحشره في زمرة الحكماء والعلماء من أن نحشره في طائفة الشعراء لأنه ما قال الشعر كاسبا، ولا مدح أحدا راغبا، وهو مع علو كعبه في الشعر كان ملما باللغة متبحرا في فنونها.
ولد يوم الجمعة في شهر ربيع الأول سنة(363) هـ فحدث له جدري في سنته الثالثة ذهب ببصره فكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر لا أعرف غيره.
كان يقول أنا أحمد اللّه على العمى كما يحمده غيري على البصر.
وهو من بيت علم وفضل ورياسة. تولى قوم من أقاربه القضاء وكان منهم العلماء الأعلام والشعراء المطبوعون.
قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة ورحل إلى بغداد ثم رحل إلى المعرة. أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر. فلما كان بها دخل على أمير المؤمنين المرتضى فعثر برجل فقال من هذا الكلب؟ فأجابه أبو العلاء على الفور: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين إسما، فأدناه المرتضى واختبره فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه وأكرمه .
ولما رجع المعري إلى بلده سمى نفسه ( رهين المحبسين ) يعني حبس نفسه في منزله وحبس بصره بالعمى.
عن إبن غريب الأيادي قال إنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فوجده قاعدا على سجادة لبد وهو شيخ فان فدعا له ومسح على رأسه قال وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما نادرة والأخرى غائرة جدا. وهو مجدور الوجه نحيف الجسم.
وعن المصيصي الشاعر قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الهزل والجد، يكنى أبا العلاء وسمعته يقول أنا أحمد اللّه على العمى كما يحمده غيري على البصر.
كان أبو العلاء عجيبا في الذكاء المفرط والحافظة، ذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي إنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء يقرأ شيئا من تصانيفه قال وكنت قد أقمت عنده سنين ولم أر أحدا من أهل بلدي فدخل المسجد بعض جيراننا للصلاة فرأيته وفرحت فقال لي أبو العلاء أي شيء أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جارا لي بعد أن لم ألق أحدا من أهل بلدي سنين. فقال لي قم فكلمه. فقلت حتى أتمم النسق. فقال لي قم وأنا أنتظرك. فقمت وكلمته بلسان الأذربيجانية شيئا كثيرا إلى أن سألت عن كل ما أردت فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي أي لسان هذا؟ قلت له هذا لسان أذربيجان، فقال لي ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتما ثم أعاد على اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه بل جميع ما قلت وما قال جاري فتعجبت غاية العجب من حفظ ما لم يفهمه.
كان أبو العلاء قد رحل إلى طرابلس وكان بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم واجتاز باللاذقية ونزل ديرا كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة فسمع كلامه وأخذ عنه.
الناس في حيرة من أمر أبي العلاء من جهة اعتقاده فقد أورد له الرازي في الأربعين قوله:
قلتم لنا صانع قديم قلنا صدقتم كذا نقول ثم زعمتم بلا مكان ولا زمان ألا فقولوا هذا كلام له خبئ معناه ليست لنا عقول. ثم قال الرازي كان المعري متهما في دينه يرى رأي البراهمه لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحما ولا يؤمن بالرسل ولا البعث ولا النشور.
وروى أبو زكريا الرازي قال، قال لي المعري يوما ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي سيتبين لي اعتقاده، فقلت ما أنا إلا شاك. فقال لي هكذا شيخك.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يقول عنه هو في حيرة.
قال صلاح الدين الصفدي وهذا أحسن ما يقال في أمره لأنه قال:
خلق الناس للبقاء فضلت أمة يحسبونها للنفاد إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد.
ثم قال: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا. تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك، ثم قال صلاح الدين الصفدي أما الموضوع على لسانه فلعله لا يخفى على ذي لب. وأما الأشياء التي دونها وقالها في( لزوم ما لا يلزم) وفي(استغفر واستغفري) فما فيه حيلة وهو كثير من القول بالتعطيل واستخفافه بالنبوات ويحتمل أنه ارعوى وتاب بعد ذلك كله.
قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني قال المعري: لم أهج أحدا قط. قلت صدقت إلا الأنبياء عليهم السلام فتغير لونه.
هذا وقد رويت أشياء تدل على تدينه وصحة عقيدته، من ذلك ما حدث به الحافظ الخطيب حامد بن بختيار النمري قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن أحمد السروجي يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول دخلت على أبي العلاء التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد عليه وأقرأ عليه فسمعته ينشد من قبله:
كم بودرت غادة كعوب وعمرت أمها العجوز أحرزها الوالدان خوفا والقبر حرز لها حريز يجوز أن تبطىء المنايا والخلد في الدهر لا يجوز، ثم تأوه مرات وتلا{ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}[ هود: 103ـ 105] .
ثم صاح وبكى بكاء شديدا وطرح وجهه على الأرض زمانا ثم رفع رأسه. ومسح وجهه، وقال سبحان من تكلم بهذا في القدم، سبحان من هذا كلامه.
فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد علي. وقال متى أتيت؟ فقلت الساعة. ثم قلت يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ فقال لا يا أبا الفتح بل أنشدت شيئا من كلام المخلوق.