مذكرات في تاريخ الكنيسة المسيحية - القمص ميخائيل جريس ميخائيل ( 43 ) يتبع
وقد أسس القديس مرقس بالإسكندرية مدرسة لاهوتية لتتصدي لتعاليم المدرسة الوثنية التي كانت هي الخلفية الطبيعية لمدرسة أثينا وكان يقوم بالتدريس فيها أكبر الفلاسفة الوثنيين في ذلك الحين.
وقد أقام مرقس الرسول القديس يسطس أول رئيس للمدرسة اللاهوتية، هو الذي صار فيما بعد سادس بابا للإسكندرية.
كما أن القديس مرقس وضع القداس الإلهي للصلوات الكنسية وهو المعروف بالقداس المرقسي والكيرلسي نظرا لان البابا كيرلس الأول هو الذي دونه بعد أن كان رجال الكنيسة يتسلمونه بعضهم من بعض شفهيًا. فلما رأى الوثنيين بوادر نجاح الرسول في بشارته اشتد حنقهم عليه وراحوا يتربصون به ليقتلوه. ولكنه واصل أداء رسالته غير عابئ بما يدبرون ثم اعتزم أن يترك مصر بعض الوقت ويعود ليفتقد أولاده من المؤمنين في الخمس مدن الغربية ثم مضي منها إلى أفسس حيث تقابل مع القديس تيموثاوس، ثم اتجه إلى روما تلبية لدعوة القديس بولس الرسول، وبقي معه هناك حتى استشهاده في سنة 68م، وبعد ذلك عاد إلى مصر واستأنف فيها عمل الكرازة وقد كان عدد المؤمنين لا يفتأ يتزايد تزايدا عظيما. فلما كثر عدد المؤمنين وتوطدت دعائم الكنيسة التي أسسها تغلغل الحقد في قلوب الوثنيين عليه واضمروا الغدر به، حتى إذا كان عيد القيامة المجيد في 26 ابريل سنة 68م الذي يوافق 30 برمودة بالتقويم المصري القديم وكان المسيحيون يحتفلون بهذا العيد في كنيسة بوكاليا وقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو نفسه يوم الاحتفال بعيد الإله الوثني، وقد تدفقت جموع الوثنيين للاحتفال بهذا العيد، فلما علموا أن القديس مرقس يحتفل بعيد القيامة في الكنيسة مع شعبه حتى اندفعوا إلى الكنيسة في جموع ساخطة وهجموا على القديس ووضعوا حبلا في عنقه وألقوه على الأرض وراحوا يسحلونه في طرقات المدينة وساحاتها وهو لا يفتأ يرتطم بالأحجار والصخور حتى تناثر لحمه ونزف دمه واستمروا يفعلون به هكذا طوال النهار، حتى إذا خيم الليل ألقوا به في السجن. وفي ظلام ذلك السجن ظهر له السيد المسيح في نور عظيم وشجعه وقواه وهو يخاطبه قائلًا (يا شهيدي الأمين) واعدا إياه بفردوس النعيم، ولذلك أصبح لقب القديس مرقس المعروف به في طقوس الكنيسة وصلواتها هو (ثيورديموس) أي (ناظر الإله) ثم في فجر اليوم التالي عاد الوثنيين إلى القديس مرة أخرى، وربطوا عنقه أيضًا بحبل غليظ، ثم راحوا يسحلونه كذلك في كل طرقات الإسكندرية حتى اسلم الروح. على أن موت القديس لم يهدئ من ثائرة الوثنيين وحقدهم فاعتزموا حرق جثته بعد موته إمعانا في التنكيل به والتشفي منه وبالفعل جمعوا كومه عظيمة من الحطب واعدوا نارا للمحرقة، غير أنه حدث في اللحظة التي أوشكوا فيها أن يلقوا الجسد في النار أن هبت عاصفة مصحوبة بمطر غزير فانطفأت النار وتفرق الشعب وعندئذ أسرع جماعة من المؤمنين فأخذوا الجسد وحملوه إلى كنيسة (بوكاليا) ووضعوه في تابوت ثم صلي عليه خليفته القديس إنيانوس مع الإكليروس والشعب ودفنوه في قبر نحتوه في الجانب الشرقي من الكنيسة أطلقوا عليها اسم كنيسة القديس مرقس، وتحتفل الكنيسة القبطية في كل الأنحاء بذكري استشهاد القديس يوم 30 برمودة من كل عام وقد كان استشهاده في الثامنة والخمسون من عمره.
وقد ظل جسد القديس مرقس في تابوته حتى سنة 644م في كنيسة بوكاليا بالإسكندرية، وكانت تطل على الميناء الشرقي للمدينة. فلما وقع الانشقاق العقيدي في مجمع خلقدونية سنة 450 م. تعرضت الكنيسة القبطية التي تؤمن بالطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة للسيد المسيح لاضطهاد عنيف من أصحاب بدعه الطبيعتين والمشيئتين الذين أطلق عليهم لقب الملكيين لأنهم اعتنقوا مذهب الملك الروماني واستولي أولئك الملكيون على الكنائس القبطية ومنها كنيسة القديس مرقس بالإسكندرية وبداخلها جسد القديس وظلت تحت سيطرتهم حتى سنة 644 م. وفي هذه السنة التي تم فيها الفتح العربي لمصر بقياده عمرو بن العاص، حاول أحد البحارة سرقة رأس القديس بعد أن فصلها عن الجسد وخبأها في سفينة معتقدًا أنها تخص رجلًا عظيمًا ولكن حين تحرك أسطول عمرو بن العاص وخرج كله من الميناء حدث أن السفينة التي تحمل رأس القديس ثبتت في مكانها ولم تشأ أن تتحرك علي الرغم من كل ما بذله البحارة من المحاولات، فأدركوا أن في الأمر سرا ومن ثم أصدر عمرو بن العاص أمره بتفتيش السفينة. فلما أخرجوا الرأس تحركت السفينة على الفور. فاستحضر عمرو بحار السفينة واستجوبه، فلما علم أنه سرق هذا الرأس من الكنيسة استدعى القديس بطرس بطريرك الأقباط وسلمه الرأس كما وهبه عشرة آلاف دينار لبناء كنيسة لصاحب هذا الرأس الذي له كل هذه الكرامة. وبالفعل تم بناء الكنيسة بالإسكندرية وهي المعروفة بالمعلقة بالقرب من المسلة الأثرية، وقد استقر الرأس فيها حتى القرن السادس، بينما كان جسد القديس مرقس راقدًا في كنيسة بوكاليا التي كانت لا تزال تحت سلطان الرومان الملكيين وقد ظل الجسد في هذه الكنيسة حتى حدث في نحو عام 815 م. وبعدها بسنوات قليلة أن احتال بعض البحارة من أهل البندقية وسرقوه ونقلوه إلى مدينتهم حيث ظل بها واهتم حاكم البندقية جستنيان ببناء هيكل فخم جميل ووضع فيه الجسد، غير أن هذا الهيكل احترق سنة 977م. فجدد عمارته الدوق بطرس أرسيلوا، ثم أقيمت للجسد كنيسة تعتبر من أضخم وأفخم كنائس العالم وهي كنيسة القديس مرقس بالبندقية وقد بدأ في بناءها سنة 1052 م. ولم يتم بناؤها إلا في القرن الثامن عشر للميلاد وقد تباري في بنائها وزخرفتها أعظم واقدر مهندسي وفناني العالم فخرجت تحفه بديعة رائعة. أما رأس القديس مرقس فقد ذكرنا أن البابا بنيامين الثامن والثلاثين بدأ في بناء كنيسة لتوضع فيها الرأس. غير أن الرومان بدأوا يحاولون الاستيلاء على الرأس أيضًا. حتى أخذها الأقباط المؤمنين وخبأها في دير القديس مكاريوس ببريه شيهيت حوالي سنة 1013م. ثم في خلال القرن الحادي عشر وحتى القرن الرابع عشر تتابع نقل رأس القديس إلى كثير من بيوت أغنياء الأقباط لإخفائها عن الولاة العرب الذين كانوا لا يفتأون يفتشون عنها ليقسروا على دفع مبالغ ضخمة لاستعادتها فكانوا لا يعلمون أن رأس القديس موجودة بأحد بيوت سراة الأقباط حتى يقبضوا عليه ويضربوه ويهينوه ويفرضوا عليه مبلغًا فاحشًا من المال فإذا اضطر إلى دفعه تركوا الرأس له وإذا رفض وعجز نكلوا به وأوثقوه والقوة في السجن وقد تكرر هذا مرارًا كثيرة، وحتى تم أخيرًا بناء مدفن خاص لرأس القديس في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية في القرن الثامن عشر ووضع فيه داخل صندوق من الرخام. وذلك منذ أيام البابا بطرس السادس.
و قد ظل جسد القديس مرقس راقدًا في كاتدرائيته العظمى في البندقية منذ سنة 828 م. حتى طلب البابا كيرلس السادس بطريرك الأقباط الأرثوذكس من بابا روما إعادة الجسد إلى موطنة الأصلي في مصر وكان ذلك بمناسبة الاحتفال بمرور تسعة عشر قرنًا على استشهاد القديس، وكذلك بمناسبة تأسيس الكاتدرائية المرقسية الكبرى بأرض الأنبا رويس بالعباسية بالقاهرة لتكون مقرًا للجسد المقدس وفي يوم 24 يونيو سنة 1968 ميلادية عاد الوفد الذي أوفده البابا كيرلس السادس لإعادة الجثمان إلى مصر، ومعه أعضاء البعثة التي أوفدها بابا روما يحملون الرفات المقدس. وكانت في هذه الأثناء أجراس الكنائس تدق في القاهرة كلها ابتهاجًا بهذه المناسبة الرائعة.
ثم في الساعة السادسة من صباح يوم الأربعاء 26 يونيه سنة 1968م بدأ الاحتفال الديني الطقسي بافتتاح الكاتدرائية المرقسية الجديدة بدير الأنبا رويس بالعباسية بالقاهرة، فجاء قداسة البابا كيرلس السادس بسيارته يحمل صندوق رفات القديس مرقس الرسول من الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية التي ظل موضوعًا بها منذ ثلاثة أيام وتقدم الموكب يحف به المطارنة والأساقفة والكهنة والشمامسة إلى أن صعد البابا إلى الكاتدرائية الجديدة، ووضع الصندوق بكل إجلال على مائدة خاصة في شرقية الهيكل، وبدأت مراسم القداس الحبري الحافل الذي خدمه قداسة البابا كيرلس السادس واشترك معه مار أغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس وعدد من المطارنة الأقباط والأثيوبيين والسريان والهنود الأرمن الأرثوذكس، وحضرة الإمبراطور هيلاسلاسى الأول إمبراطور أثيوبيا ቀዳማዊ ኃይለ ሥላሴ والكاردينال دوفال رئيس البعثة البابوية الرومانية وكثير من رؤساء الأديان والمطارنة والأساقفة ورجال الدين من مختلف بلاد العالم ونحو عشرة آلاف من الشعب وما أن انتهى القداس حتى نزل البابا كيرلس يحمل الرفات ومعه الإمبراطور وبطريرك السريان الأرثوذكس ورؤساء الكنائس في موكب كبير واتجه إلى مزار القديس مرقس الذي كان قد سبق إعداده تحت المذبح الرئيسى للكاتدرائية وأوضع الصندوق المزخرف في القبر الرخامي وغطس بلوحة رخامية كبيرة وسط الترتيل والأناشيد. وقد اشتهر القديس مرقس الذي أسس كنيسة الإسكندرية بلقب ظل يطلق علية على مدى التاريخ القبطي كله وهذا اللقب هو "كاروز الديار المصرية ورئيس بطاركة كرسي الإسكندرية العظمى".
و قد اشتهر أسم القديس مرقس على مدى التاريخ المسيحي والقبطي فأصبح يطلق بعده على كثير من البطاركة والأساقفة والكهنة والرهبان والكنائس باعتباره هو كاروز الديار المصرية ومؤسسها.
أ- فمن بطاركة الأقباط الأرثوذكس أطلق اسم هذا القديس على سبعة منهم وهم البابا مرقس الثاني البابا 49 - البابا مرقس الثالث البابا 73 - البابا مرقس الرابع البابا 84 - البابا مرقس الخامس البابا 98 - البابا مرقس السادس البابا 101 - البابا مرقس السابع 106 - البابا مرقس الثامن 108.
ب- أما الأساقفة الذين أطلق عليهم اسم القديس مرقس فكانوا كثيرين جدًا، لم يخل منهم عهد ومكان ومن أمثلة ذلك انه عندما قام البابا بنيامين وهو الثاني والثمانون بصنع الميرون شاركه في ذلك اثنا عشر أسقفًا كان منهم أربعة باسم مرقس. وفي عهد البابا ديمتريوس الثاني (111) كان وكيل الكرازة المرقسية وهو الأنبا مرقس مطران البحيرة. كما كان يوجد بهذا الاسم الأنبا مرقس مطران أبو تيج. ويوجد حاليًا نيافة الأنبا مرقس الأسقف الأرثوذكسي لمرسيليا وطولون بفرنسا، إلخ..
ج- أما الكهنة والرهبان والنساك الذين يحملون اسم القديس مرقس فعددهم عظيم جدًا يصعب حصره. وقد بنيت كنائس كثيرة في أنحاء مصر باسم القديس مرقس فأندثر بعضها وبقيت آثار البعض الآخر.
من أقاصي الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة بلغت أقوالهم.