مذكرات نجيب الريحاني يرويها بنفسه «قالولي في الجيش سمع سورة الأعراف رغم إني مسيحي»
واجه نجيب الريحاني فصلاً جديدا من شركة السكر للمرة الثانية، بعد أن عاد ينشغل بالفن من جديد، لدرجة دفعته لإهمال عمله، فقررت الإدارة فصله، ليعود مشردا في الشوارع حتى تعرف على «جورج أبيض» الذي انضم إلى فرقته، وعمل بها فترة قام خلالها بأدوار ثانوية صغيرة، ثم انفصل عنها، وكون بالتعاون مع بعض من زملائه في فرقة «جورج أبيض» فرقة جديدة، اطلقوا عليها اسم «فرقة الكوميدي العربي»، التي كان أبرز أعضائها روز اليوسف، عزيز عيد، أمين عطاالله، وانضمت Yليهم فيما بعد منيرة المهدية، التي تسبب حضورها في تحقيق نجاح كبير للفرقة، وأحدث انفصالها عنهم بعد ذلك خرابا كبيرا لهم.
في شهر مايو عام 1916، هجر نجيب الريحاني فرقة الكوميدي العربي دون أن يفكر في العمل الذي يعيش به «ما هي ميتانة ميتانة». وفي تمام الساعة الواحدة من مساء يوم أول يونيو عام 1916، كان جالسا في بوفيه تياترو برنتانيا، مفلسا كالعادة، وإذا به يرى شخصا هبط عليه في سترة فاخرة، وعصا ذهبية المقبض، وخاتم يلعب شعاعه بالنواظر، ولما جلس إلى جانبه أخرج من جيبه علبة سجائر فاخرة من الفضة، وفي حركة ارستقراطية فخمة، ناوله سيجارة. إنه استيفان روستي، زميل العناء والشقاء.
«إيه يا واد النعمة اللي ظهرت على جتة اللي خلفوك دي، ومنين العز دا كله! تكونش سطيت على خزينة البنك الأهلي؟ والا قتلت واحد بنكير ولطشت اللي في جيبه؟».
وبكل برود هز استيفان رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك، المهم إن ربنا فرجها علينا والسلام»، وبعد مناقشات لاستطلاع سر هذا الثراء المفاجيء، ذكر له استيفان أن هناك «كباريه»، خلف برنتانيا، يطلقون عليه اسم «أبيه دي روز»، وأنه وجد هناك عملا يتقاضى عليه ستين قرشا في كل مساء.
«يا نهار أبوك زي الكرمب يا استيفان يا روستي! ستون قرشا في الليلة، يعني قد ماهية العبد لله في الشهر إذا كانت الحالة رايجة كمان!»
راح استيفان يشرح له ماهية عمله، فإذا به يظهر خلف ستار من الشاش أثناء انطفاء الأنوار في المحل، فيؤدي من مكمنه هذا بعض حركات هزلية، وغير هزلية، فيما يشبه «عروض خيال الظل»، وكأنه امرأة لعوب، لمدة ربع ساعة على المسرح، وإلى هنا ينتهي دوره وينصرف.
«ممدت يدي إلى استيفان، وقلت له: ألا مافيش عندكم شغله لواحد زيي؟ أي دور، خدام، سيد، باشا، بيه، أفندي، واحد مش لاقي اللضا، أي دور أنا قابل. ثم مش طمعان كمان، نص ريال في الليلة كويس أوي، وثمانية صاغ كمان.. رضا».
تركه استيفان بعد أن وعده خيرا، وفي المساء ألتقيا أمام باب «الأبيه دي روز» فقاده إلى صاحب الملهى، وكان ايطاليًا اسمه الخواجة «روزاتي». وكان اسكتش «خيال الظل» يحتاج إلى ظهور خادم بربري، فقدمه استيفان قائلا إنه ممثل كبير مشهور، ولم يكمل سلسلة المحاسن حتى قاطعة الخواجة قائلا: «لا لا، أنا مش عاوز ممثل كبير وشهير، وبتاع.. أنا عاوز ممثل كل شيء كان لأن الدور مش مهم»، ليتدخل الريحاني في المناقشة قائلا: «أنا يا أفندم ممثل بسيط على قد الحال، لا أنا شهير ولا أنا كبير»، ليرد عليه الخواجة: «أنا مش راح أدفع أكتر من أربعين قرشا»، فأبرقت أسارير الريحاني، ونظر إلى استيفان نظرة استفهام، لأنه لم يكن يصدق أن يحصل على مرتب كهذا.
بعد هذا العرض، بدأ الريحاني واستيفان تمثيل روايات قصيرة على المسرح باللغة الفرنسية، ذات فصل واحد، عمادها من الذكور هما فقط، بينما من الإناث فالخير كثيرا، لكن المتفرجون كانوا ينتهزون فرصة التمثيل هذه ويديرون ظهورهم إلى المسرح، ويتحدثون بعضهم إلى بعض، في مشهد يبدو وكأن الريحاني واستيفان يمثلان للكراسي.
وفي إحدى الليالي، استلقى الريحاني على سريره واستعرض أمام مخيلته كل ما مر به من تجارب حلوها ومرها، وفي فجر هذه الليلة رأى ما يشبه خيالا كالشبح أمامه، يرتدي جلباب وقفطان، وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقال في نفسه. ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد روايتنا؟
لم يتوان في نفس الدقيقة، وكانت الساعة الخامسة صباحا، فقام من فراشه وأيقظ أخيه الصغير، وراح يملي عليه هيكل الموضوع الذي صمم على إخراجه، وكان عبارة عن عمدة من الريف وفد إلى مصر، يحمل الكثير من المال، فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم، ويقسم أغلظ الأيمان أن يثوب إلى رشده، وألا يعود لارتكاب ما فعل.
ولما أشرف الخواجة «روزاتي» صاحب الملهى على الإفلاس وكاد يقفله، تقدم إليه نجيب يرجوه تأجيل النطق بالحكم بضعة أيام، حتى يضع روايته التي قد تكون داءً شافيًا من الكساد، فقبل الرجل الاقتراح، ليضع أولى روايات كشكش بك، وكانت عبارة عن اسكتش فكاهي، يستغرق عشرين دقيقة، وجعل اسم الرواية «تعالي لي يا بطة».