المحاولة الأخيرة
هبت البرودة القاسية على حياتهما فجأة دون مقدمات ظاهرة ، كعاصفة خماسينية مباغتة في أعقاب يوم ربيعي مشرق تلون وجه الكون بلون أصفر باهت ، ويتشبع الجو المعفر بالأتربة والرمال ، فتكاد تختنق الأنفاس في الصدور .
كانت حياتهما معا قصة حب رائعة يضرب بها العشاق المثل لكل ما هو جميل في الحب ، يعيش في أعماقها ، وتعيش في وجدانه .. لم تؤثر في قصتهما لطمات الحياة القاسية أحيانا ، ولا فتنتها الطاغية حينا آخر .. امتزج العشق الملتهب بالتفاهم الفكري المتبادل . بالإيثار والتضحية ، بالمودة والرحمة ، بالمسؤولية المشتركة ، بالأمل الواحد الطموح ، بالرغبة الملحة في تهيئة حياة مثالية للأبناء .. امتزجت كل القيم الإنسانية النبيلة في علاقتهما فصنعت نفسا واحدة بجسدين ينفصلان أحيانا لأداء وظيفة تصب في الهدف الواحد ، ويتصلان أحيانا لأداء نفس الرسالة ..
سنوات عشر مرت على هذه العلاقة الفريدة المتميزة حتى أصبحا قادرين على إعطاء الأزواج دروسا في الحب .. لجأت إليهما الكثير من الأسر التي تعاني المشكلات تستمد منهما العون أو النصيحة .. الحياة تمضى بينهما في رغد رغم كل الصعاب الخارجية .. سعادتهما نابعة من إيمانهما الثابت بقدرتهما على الاستمرار ككيان واحد .
لم يأبه في أول الأمر لهاتين العينين اللتين ترمقانه بوله حيي .. إلى أين المفر وساعات العمل تضمهما معا ربما أكثر من الساعات التي يقضيها في بيته ؟ .. صحيح أنه يترك قلبه وراءه في البيت حينما يودعها بقبلة حانية ويستودعها الله فتدعو له .. غير أنه في النهاية بشر ، والتي تلح عليه في ريعان الشباب ، تتفتح عاطفتها كما تتفتح الزهرة مع نسائم الربيع وتتفجر أنوثة عذبة بكرا .. لم يكن من النوع الذي يخطف بصره الجمال الباهر فقد ألزم عينيه بغض البصر منذ كان غضا ، لكنها تخاطب وجدانه أكثر مما تخاطب عينيه .. لعل إيمانها هي الأخرى يزداد بقدرته على التوحد معها .. لعلها سمعت عن السعادة في كنفه وحلمت بها رغما عنها .. لعلها الألفة والتعود وطول المخالطة .. لكنه في النهاية هو الحب .
يرثي لها أكثر مما ينجذب إليها فإيمانه بزوجته ثابت ، غير أن المشاعر الشابة فيه تزحف رويدا رويدا على مواطن الشيب ..
يرجع إلى بيته يحاول أن يعيد الشباب مع رفيقة عمره .. مسؤولياتها بين الأولاد والمنزل وخدمته كسكرتيرة تدير شؤونه أعباء تلتهم وقتها كله .. هيهات أن تجد وقتا لدور العشيقة المتفجرة بطاقات الرغبة والاشتياق .. تشعر بحاجته إلى الدفء .. تحاول أن تقتطع من وقت الأسرة لتعطيه الشباب ، ولكن إن وجدت الوقت فأين النفس المشتتة بين الأعباء .. المنسحقة تحت طلبات الحياة وضروراتها !!!
يهرب إلى الانترنت .. إلى الأدب .. كاد يؤمن أن الحب العاشق لا يوجد إلا في قلوب الخلاة والمترفين ، أو في الروايات والأفلام ، أما الذين يصارعون صعوبات الحياة فيكفي لهم التفاهم والانسجام .
العقل يحسم الموقف لصالح الكيان الواحد المشترك ، ولكن هيهات في مثل هذه القضايا المصيرية الشائكة أن يحسمها العقل وحده .. العاطفة والغريزة يصارعان من أجل البقاء .. الذكريات الحلوة تتتابع على ذهنه ، كانت له أيضا قصة حب صاخبة استمرت سنوات .. هل يريد أن يعيش الشباب مرتين !!!
هو مازال شابا لكنها أفنت حياتها لتأمين حياتهما المشتركة وحياة الأسرة .. هل جزاء الشمعة التي احترقت لتضيء له ظلمات الطريق استبدالها بشمعة أخرى ؟؟
هو موقن أنه يستطيع تشكيل الشمعة الذائبة من جديد .. يغير فتيلها المحترق ويعيد تشكيلها فتضيء له عالمه حتى النهاية .. العقبة الوحيدة أنها لا تساعده على استبدال الفتيل المحترق كأنها أدمنت الاحتراق كما وهبت نفسها للتضحية ..
الفتنة تكاد تطوقه بذراعيها البضتين ، كأنها تلمح الصراع في أعماقه فتشدد عليه الحصار بعنف ليعلن الاستسلام .. ينبوع حياة يتدفق أمام عينيه .
كان لابد من المواجهة الحاسمة .. قرار الأجازة ومحاولة مستميتة لإعادة تشكيل الشمعة المحترقة ..
ترى هل تستجيب الحبيبة الأولى للمحاولة الأخيرة ؟؟؟