أبتاهُ قلبي فاضَ بالأحزانِ
وجرتْ عليهِ نوائبُ الحَدَثانِ
قدْ راعَهُ أمرٌ يُفَتَّتُ مُهجةً
حَرّى وجَوفاً ثارَ كالبركانِ
أبتاهُ فَقدُكَ هَدَّ كلَّ عَزيمتي
وتصدَّعَتْ من وَقعِهِ أركاني
عَزَّ الفِراقُ وإنهُ لَمُحتَّمٌ
حَكَمتْ بذاكَ إرادةُ الرحمنِ
مهما يَمدُّ الدَّهرُ ظلَّ سعادةٍ
لِمُنعَّمٍ بالمالِ والسُّلطانِ
فَمَصيرُهُ المحتومُ قَطعُ وَشائجٍ
تَمتدُّ بين الأهلِ والخلاَّنِ
فَمُفرِّقُ الأحياءِ ذلكَ دأبهُ
يَمضي بأمرِ اللهِ في الأكوانِ
حتى على الملَكِ الموكَّلِ إنها
سَتدورُ كأسُ منيَّةٍ وهوانِ
* ** *
يا لائمي جزعاً عليهِ أُحِسُّهُ
ورَقائقاً فاضَتْ بِها العَينانِ
لا تعذلنَّ دَمي إذا هوَ قد جرى
في مَدمَعي. وأفاضَ في وجداني
فأبي لعمرُكَ كهفُ كلِّ مُشرَّدٍ
ومُجيرُ مَلهوفٍ أتاهُ وعانٍ
ويداهُ بالبَذلِ السَّخيِّ وبالنَّدى
عُرِفتْ بما لم تَجْرِ فيهِ يَدانِ
يُضفي عليهِ الزُّهدُ أروعَ حُلَّةٍ
وتزيدُهُ شَرَفاً رؤى الإحسانِ
يومانِ قِسمَةُ دَهرِهِ نهجُ العُلا
مُتوازيانِ فليسَ يفترقانِ
يومٌ بهِ للجودِ يُشهَدُ والنَّدى
وبهِ لِيَومِ الرَّوعِ يومٌ ثانِ
خطَّتْ تجاعيدُ الزَّمانِ بوجهِهِ
نورَ الوَقارِ وزَهوَةَ الإيمانِ
وكَسَتهُ هالةَ بهجةٍ قُدسيَّةٍ
عَكسَتْ بوَجنَتِهِ رِضا الرَّحمنِ
* ** *
أبتاهُ والشَّرفُ الرَّفيعُ مُتيَّمٌ
يبكي عليكَ بِمَدمَعٍ هتَّانِ
أبتاهُ والعلياءُ جاثيةٌ وقد
مالتْ بإجلالٍ على الجُثمانِ
أبتاهُ والمجدُ الأسيلُ مُيتَّمٌ
مُذْ لفَّعَتْكَ شَمائِلُ الأكفانِ
أبتاهُ والكلماتُ عاجزةٌ فلا
تقضي لحقِّ نَداكَ أيُّ معانِ
وفَمُ البلاغةِ عَيَّ عن إيضاحِهِ
وكأنَّهُ جوفٌ بغيرِ لسانِ
أبتاهُ والأسماءُ جامدَةٌ فلا
ترقى لِوَصفِ عُلاكَ في الأكوانِ
أبتاهُ والفُصحى مُروَّعةٌ فقدْ
فقَدَتْ بفَقدِكَ أروعَ الأوزانِ
قد كنتَ لُجَّاً زاخراً بمعالمٍ
صَنعَتْ جَمالاً زاهيَ الألوانِ
عَلَمٌ يقودُ إلى الرَّشادِ ومَعْلَمٌ
مُتأصِّلٌ بالعِلمِ والإيمانِ
* ** *
قدْ كنتَ يا أبتاهُ مَنهلَ خِبرةٍ
ومُحيطَ معرفةٍ وبَحرَ معاني
رَمزَ الهُدى، والبِرُّ في أخلاقِهِ
وبهِ فَخارُ الأهلِ والخُلاّن
أبتاهُ ليتَ جَوارحي وحُشاشَتي
دُفِنتْ مكانَكَ في الثَّرى الهَيمانِ
ما بعدَ بُعدِكَ يا أبي غيرُ الوَنى
وبُكاءُ هتَّانٍ ونَوحُ جَنانِ
* ** *
فَقَدتْكَ بلدتُكَ التي أوليتَها
كلَّ الوفاءِ وقِمَّةَ العِرفانِ
عَرَفتْكَ بَرّاً راحماً متواضعاً
يَحنو على بؤسِ الوني الولهانِ
شَهِدَتكَ رائدَ أمَّةٍ مُتعلِّماً
يَحكي السُموَّ ورِفعةَ الإنسانِ
ورأتكَ شَيخاً صالحاً ومُعلِّماً
يُهدي الضّياءَ لِتائهٍ حَيرانِ
علَّمتَنا أبتاهُ في أنَّ الثَّرى
ودمَ المروءةِ في الورى صِنوانِ
فدمُ الأبيِّ يهونُ دونَ إبائِهِ
وثَرى المروءَةِ رِفعةُ الأوطانِ
* ** *
بالسِّلمِ عنوانُ الكفاحِ وجُهدُهُ
لِبناءِ أجيالٍ من الفتيانِ
وإذا دهى خَطبٌ يَمَسُّ تُرابَها
يرويهِ من دَمهِ الزَّكيِّ القاني
تبكي عليكَ بيوتُها ودروبُها
ومرابعُ الزَّيتونِ والرُّمانِ
والمَسجدُ المَحزونُ يبَكي شَيخَهُ
والبابُ والمحرابُ ينتحبانِ
ومساربٌ فيها تَمُرُّ ومنزلٌ
عطَّرتَهُ بتلاوةِ بالقرآنِ
ومواضعٌ شهدتْ سجودَكَ أو ثَرىً
روَّيتَهُ من دمعِك الهتَّانِ
وبَنوكَ والأحفادُ فَتَّ قلوبَهم
لَذْعُ الفِراقِ ولَوعةُ الحِرمانِ
فالحزنُ يَعصرُ كلَّ قلبٍ والأسى
يُفضيهِ إنسانٌ إلى إنسانِ
* ** *
يا بلدةَ الشَّيخِ الجليلِ جزاكمُ
ربُّ الوجودِ منازلَ الرِّضوانِ
وأثابَكم عنا جزيلَ مثوبةٍ
أجرَ الوفاءِ وخالصَ العِرفانِ
أسَخيتموا أن تدفنوا تَحتَ الثَّرى
فَيضَ الحَنانِ وجَذوَةَ الإيمانِ
إن كانَ رَمساً في مكانٍ واحدٍ
فالحزنَ مَنشورٌ بكلِّ مكانِ
لو كانَ بالرُّوحِ العزيزةِ يُفتدى
خِلٌّ فديتُكُ مُهجتي وجَناني
لكنْ قَضاءٌ أنْ يُرَوَّعَ رَوعُنا
وتُضيمُ فيكَ نوائبُ الحَدَثانِ
فجزاكَ ربي في ضَريحِكَ فُسحةً
وحَباكَ رَوضاً وارفَ الأفنانِ
وأفاضَ بالصَّبرِ الجميلِ وبالرِّضا
وامتنَّ بالسَّلوى وبالسُّلوانِ