قصة امرأة «كوبى بيست»
هجرت "نها" منزلها فى ساعة متأخرة من الليل لتستقل سيارتها متجهة إلى بيت أهلها، فقد استحوذ عليها الغضب واتخذت قرارها بالانفصال عن زوجها، الذى لم تعد تطيق العيش معه ولو ليوم واحد.
وصارت تلعن الظروف التى تكررت معها وكأن الحياة تعاندها وتسير عكس إرادتها. قادت نها سيارتها ودموعها تسيل، يعتصرها الألم وهى تستعرض شريط ذكريات العمر.. منذ أن التقت زوجها الأول "زياد" وهى فى العام الثالث من دراستها الجامعية، وانجذبت إليه من بين مجموعة من الأصدقاء، كان زياد يكبرها بست سنوات وكان يجمعهما توافق اجتماعى فهو من أسرة معروفة وهى الابنة الوحيدة لأسرة مقتدرة، وفرت لها حياة كريمة واعتادت الاستجابة لكل ما تطلبه وكل ما تحتاجه فتاة تحب أن تزهو بنفسها، خصوصاً والدها الذى كان يحب أن يدللها ويستجيب لكل ما تطلبه.
تطورت علاقة نها بزياد بعد عدة لقاءات وتحوَّلت إلى قصة حب جميلة كل شىء ميسر لها كى تكتمل، فلا توجد مشكلات مادية يمكن أن تقف عائقاً أمامهما، إلا أنه كان مشغولاً فى بداية الأمر ببناء مشروع خاص بدأه، وحين انتهى منه كانت هى قد أكملت دراستها الجامعية وتمت خطبتهما، ولم يمض أكثر من ستة أشهر إلا وكانا قد تزوجا. كانت حياتهما الزوجية مستقرة لأنه كان محترماً للغاية ورزقهما الله، بعد زواجهما بعامين، بطفل كان مصدر سعادة بالنسبة لهما. كان كل شىء يسير فى هدوء إلى أن تعرض عمله لمشاكل كثيرة أثَّرت على حياتهما.. فى بداية الأمر كانت "نها" تطلب من أبيها المساعدة وكان زوجها يرفض ويطالبها بأن تعيش بإمكانياتهما الحالية ولكنها كانت تطيعه مرة ثم تعود بعد ذلك لتطلب مرة أخرى من أبيها. تكررت تلك المشكلات بينهما ولكنها كانت تمر إلى أن جاء وقت دخول طفلها المدرسة. لم تحتمل عدم قدرة زوجها على إدخاله مدرسة بعينها، لم تحتمل رفض زوجها لأن يدفع والدها مصاريف مدرسة ابنهما بالرغم من أنه كانت لديه أسبابه لذلك. قال لها: "لو بعد الشر والدك جرى له حاجة هقدر أكمل مصاريف الولد منين؟ وبعدين دا ابنى أنا، وأنا لازم أصرف عليه".
نها: "أنا مقدرش ادخَّل ابنى أى مدرسة ويكون أقل من بقية العيلة"!
زياد: "كل واحد له ظروفه وأنا هدخله مدرسة أقدر أتحمل مصاريفها".
تكرر هذا النقاش ولكن ظل كلاهما متمسكاً بوجهة نظرة، كان أكثر همها ألا تكون أقل من أولاد وبنات خالها وعماتها، فأغشى ذلك بصرها عن كل مميزات زوجها وعزة نفسه ولم تعد ترى إلا ما تريد!
نعم.. ظلت ترى نفسها محقة وأن حظها سيئ. سيطرت عليها تلك الأفكار إلى أن قررت أن تنفصل عن زوجها ووافقها والدها على ذلك.. كما وافق زوجها على الطلاق غير آسف إلا على ابنه، وكان محترماً معها حتى النهاية، فبدون محاكم أو قضايا كان يدفع لابنه كل ما يستطيع بلا مجادلة أو نقاش واستطاع أن يسافر إلى بلد عربى تاركاً وراءه ذكرى أليمة لزوجة لم تستطع أن تقف بجانبه فى محنة ليس له يد فيها وزواج لم يكمل عامه السابع وابن قد ينظر إليه ذات يوم على أنه لم يقم بواجبه كاملاً تجاهه..
ولكنه كان مرتاح القلب والضمير. فلم يكن بيده شىء لكى يفعله، ولكن نها لم تندم لوهلة على ما فعلت، بل كانت تعتقد أنها ظُلمت، وأن الحظ لم يكن حليفها، وأنها فعلت ما فيه صالح ابنها حتى لو كان المقابل ذلك هو حرمانه من وجود أبيه إلى جواره.. نجحت نها بمساعدة والدها فى أن تلحق ابنها بالمدرسة التى تتمناها له واعتقدت أنها اختارت الطريق السليم. لم يمض إلا ثلاثة أعوام من انفصالها وقابلت "محمد" الذى كان فى مثل عمرها وأحبها وطلب منها الزواج، وكان أهم شروطها أن يكون ابنها معها ووافق، وتم الزواج، وبعد فترة أخرى مرض والدها مرضاً شديداً ورحل. جاء زوجها الأول لتقديم واجب العزاء وقد رزقه الله من فضله وأصبح قادراً على أن يدفع مصاريف ابنه فى المدرسة وقد تزوج سيدة ربما أقل منها جمالاً لكن تنحنى أمام ذكائها وعقلها الراجح ويبدو من نظراتها له قدر الحب الذى تحمله له، وكان حريصاً على توصيل رسالة لنها بأنه صار أفضل بكثير. أنجبت نها ابنة وصارت حياتها مستقرة فى زواجها الجديد وكان ابنها يزور أباه فى فيلته الجديدة وكان يعود ليقصَّ عليها مقدار السعادة التى يشعر بها وهو مع أبيه وأخوته منه، كان يبدو عليها اللامبالاة ولكن ظل بداخلها الكثير من المشاعر المتناقضة، خصوصاً أن زوجها الجديد تأثر عمله بالظروف الاقتصادية ولم يعد كعهده قبل الزواج منها.
الأعوام جرت سريعاً وجاء وقت دخول ابنتها المدرسة، ولكن بدا كأن السنين لم تمض ولا الأيام تمر، فقد رد عليها محمد نفس رد زوجها الأول أنه لم يعد يستطيع إلحاق ابنته بمدرسة أخيها وإن استطاع اليوم فقد لا يضمن غداً، وبدأت الخلافات تزيد بينهما وأحست بجرح كبير حين كلمها زوجها الأول وعرض عليها استعداده لمساعدتها مادياً.
ويبدو أن الطلاق كان دائماً الحل الأقرب لعقل نها.. فلجأت إليه للمرة الثانية. لم تستطع نها بعد ذلك أن تواجه نفسها فهى لم تصبح فقط حزينة لأنها لم تلحق ابنتها بمدرسة بعينها، ولكن لأنها ترى أنها تستحق حياة أفضل من تلك التى تعيشها، حياة بلا مشاكل فهذا هو أبسط حقوقها المشروعة، وظلت تبكى حظها وتتباكى وتنعى الظروف، وهى تشعر أن فى حياتها لعنة أو أن هناك من عمل لها نوعاً من السحر لكى يعكر صفو حياتها، أو أن حظها فى الدنيا قليل. ظنت نها كل تلك الظنون ولم يخطر ببالها أن اللعنة جاءت منها شخصياً، من أسلوبها فى التفكير، من عدم رضاها بما قسمه الله لها، من تسرعها فى اللجوء إلى أبغض الحلول وهو الطلاق. لم تدرك أنها لم تساعد زوجها الأول برضاها عما حدث لهما وأنه ربما لو كانت رضت لأرضاها الله وأعطاها من فضله، وربما كان أولادها أفضل.. لم تدرك أنها لا تستطيع أن تتحكم فى كل الأحداث حولها ولكنها تستطيع التحكم فى ردود فعلها تجاهها بقوة إرادتها وصبرها، فهى فى النهاية إنسانة عادية ولا بد أن تمر بصعوبات وظروف، والحل هو المواجهة وليس الهروب.. تركت نها زوجها الثانى محمد وسارت بلا هدى يتملكها إحساس بالظلم وبالقهر وراحت تشكو وتلعن الظروف لكل من يتحدث إليها دون أن تعى نظرة الناس لها حتى أصبح الجميع يتهرب من الحديث معها، إلى أن فاجأها زوجها الأول زياد بحديث قد يبدو قاسياً إلا أنه كان حديث المصارحة، فقد وضعها أمام المرآة ووصف لها حقيقتها، فجعلها عارية أمام نفسها وكأنها تستكشف حقيقتها لأول مرة وطلب أن يسترد ابنه ليعيش معه لا لسبب إلا أنه يريد أن يربيه على الرضا بما يكتبه الله، وأنه يريد أن يبعده عن لعنتها التى أصابت البيت بدل المرة مرتين.. جادلت نها ورفضت أن يذهب ابنها للحياة مع والده وها هى تجادل حتى الآن، رغم ما سيتحقق لابنها من حياة أفضل بكثير إن انتقل للعيش مع والده.. ولكن يبدو أنها لا تنساق إلا إلى ما يهدم أو يُدمِّر.. وكأن هناك لعنة ما صارت تمثل غشاوة أفقدت عينيها البصر وأفقدت قلبها البصيرة.. لا أعلم هل ألعن نها أم أشفق عليها؟ أشعر فعلاً بالحيرة!